أطفال سورية في مهب الريح

حجم الخط

بقلم هاني عوكل

 

أي حرب تحصل بين الدول أو في داخل الدولة تحل فيها الكوارث وينتشر الخراب، والأهم من ذلك يستنزف رأس المال البشري الذي تراهن عليه الدول في تطورها وانتقالها في سلم التنمية المستدامة، وما حصل في سورية من نزاع كارثي ومدمر جاء بالضبط على رأس مالها البشري.
أكثر من دفع تكاليف الحرب السورية وعانى من ويلاتها بمختلف الطرق المباشرة وغير المباشرة هو المواطن السوري، وثمة آلاف القصص التي تروى عن عائلات نزحت من منازلها إلى مناطق أخرى، ثم شهدت موجة أخرى من النزوح المتكرر، واستقر حالها بين التفرق واللجوء والقتل.
في تقرير حديث صدر عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسورية حول حقوق الأطفال، حمّل المسؤولية المباشرة عن ما يجري لهم للحكومة السورية التي وجد أنها مقصرة في حمايتهم باعتبارها مسؤولة عن الحكم، غير أنه أيضاً جلد تنظيمات المعارضة وبالأخص منها تنظيم "داعش" المتطرف و"جبهة النصرة" لإجبارهم الأطفال على القتال معهم.
الإحصائيات الموردة في التقرير كبيرة وكارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ يشار إلى أن حوالي 2.6 مليون طفل نزحوا عن منازلهم في سورية، بينما مثل هذا العدد 2.5 مليون لجؤوا وانتشروا في بلاد الله الواسعة، والغالبية العظمى في دول الجوار الأردن ولبنان وتركيا.
المشكلة أن لا الأطفال الذين يعيشون في سورية ولا من يعيشون في الخارج يحصلون على الرعاية الكافية، بما في ذلك الأمن الغذائي والصحي والتعليمي، وعلى سبيل المثال يذكر التقرير أن 2.1 مليون طفل لم يتمكنوا من الذهاب إلى مدارسهم داخل سورية لأسباب كثيرة، من بينها استخدامها لأغراض عسكرية، وهناك من استهدفها خلال النزاع، هذا إلى جانب انعدام الأمن والأمان.
أيضاً يوضح التقرير أن حوالي 360 ألف طفل سوري يسكنون في مناطق محرمة، بمعنى أنها مناطق تعيش تحت النار ولا يمكن الوصول إليها، وهي تقع في شمال سورية، وبالتالي نتحدث هنا عن غياب كل أنواع الدعم والحماية لهذه الشريحة الكبيرة من الأطفال، وهؤلاء ضمن أكثر من مليون شخص يصعب تقديم الدعم لهم.
الخطورة في الموضوع أن اجتماع مختلف العوامل المتصلة بغياب الأمن وانتشار الفقر والعوز وقلة الحيلة، يجبر آلاف الأطفال على التسرب من مدارسهم والعمل تحت ظروف قاسية وغير مشروعة لتأمين احتياجات أسرهم، إذ ثمة تقرير آخر يرصد الأوضاع في سورية يقول إن أربعة من خمسة سوريين يعيشون تحت مستوى خط الفقر.
تقرير آخر "لليونيسف" يورد أن مجموع المحتاجين في سورية يقدر بحوالي 11.7 مليون شخص، بينهم خمسة ملايين طفل يحتاجون إلى بيئة آمنة يتوفر فيها الغذاء المناسب والتعليم وممارسة أبسط حقوقهم المكفولة دولياً، غير أن كل ذلك لا يتحقق في الوضع الحالي.
إحصائيات كثيرة تنقلها التقارير الدولية عن حالة المواطن السوري التي لا تسر عدواً ولا صديقاً، والمشكلة أن عدّاد القتلى والنازحين واللاجئين في ارتفاع ولم يتوقف، على الرغم من سيطرة الجيش السوري على ثلثي المساحة الإجمالية للجمهورية العربية السورية.
ستحتاج سورية إلى عشرات السنين للملمة جراحها وتعويض رأس مالها البشري الذي كانت تفتخر بوعيه الثقافي وانتمائه الوطني والعروبي وقدرته عل الصمود والتأقلم في وجه المتغيرات العاصفة، والسبب لا يتعلق بفاتورة الديون الكبيرة التي ستخرج منها سورية، وإنما الأساس في فكر وثقافة الكثير من أهل منطقتنا العربية، الذين يتعاملون مع المواطن على أنه عدد، ويقع في آخر الأولويات ولا هو محرك للاقتصاد والتنمية.
مسؤولية ما يحدث للأطفال في سورية لا تتحملها أطراف النزاع السوري فقط، وإنما تتحملها أيضاً الدول الكبرى المؤثرة في هذا النزاع، وكل دولة وقفت تتفرج على مآسي السوريين ولم تدفع بالمال للمنظمات الإنسانية والإغاثية الدولية لتقديم الدعم المطلوب للتخفيف عن كرب السوريين.
"اليونيسف" واحدة من المنظمات الإغاثية التي تواجه نقصاً تمويلياً حاداً بنسبة 44% للقيام بواجباتها تجاه أطفال سورية، والكثير من صوتها ومناشداتها ذهبت في مهب الريح، ولم تتلق الدعم المالي الكافي من قبل الدول لاستكمال مهامها، علماً بأنها تقدر كلفة القيام ببرامجها للأطفال في سورية حوالي 2. 1 مليار دولار.
كذلك حدث أن عقدت مؤتمرات دولية للمانحين من أجل سورية، وصرفت بالفعل بعض المليارات لكنها لم تكن كافية أبداً للتخفيف عن معانيات ملايين السوريين طيلة نزاع متواصل لأقل من تسعة أعوام بقليل، وأغلب الظن أن لا تكون احتياجات المواطن السوري على رأس أولويات الحكومة بعد أن تضع الحرب أوزارها.
إذاً المشكلة الكبرى لسورية بعد الحرب هو أن اقتصادها سيحتاج إلى سنين طويلة حتى يتعافى، ذلك أن ناتجها القومي الإجمالي تآكل إلى درجة أن موازنتها العامة انخفضت إلى 9.2 مليار دولار، ولذلك ستكون مهمة الحكومة السورية الإنفاق على الديون الخارجية وإعادة الإعمار داخل سورية، علماً أن تقديرات الأمم المتحدة للدمار تخطت 400 مليار دولار.
كل فئات المجتمع بما فيها الأطفال يدفعون ثمن الحرب وما بعدها، ولذلك فإن الحديث عن تحسن حياة السوريين أمر نسبي، إذ لربما يطرأ تحسن بالفعل في الأمن والأمان وكذلك تحسن في الاقتصاد، لكنه سيكون تحسناً طفيفاً ولا يشمل الجميع، ولتجاوز هذه المعضلة تحتاج البلاد إلى أمرين:
الأول داخلي يتعلق بخارطة طريق للحكومة السورية تركز فيها على رأس المال البشري وتنميته بكافة الأشكال والمستويات، ويسبق ذلك بطبيعة الحال مظلة الأمن والاستقرار، لأنه بدونها لا معنى حقيقياً للتنمية، والأهم شمول المواطنين تحت رعايتها وتقديم برامج وحزم تحفيزية لتحريك الاقتصاد وإعادة دمجهم في سوق العمل.
الثاني خارجي يتصل بتضافر مختلف الجهود الدولية لدعم سورية وإعادة إعمار البنى التحتية، بما فيها الخدمية الرئيسية من مستشفيات ومدارس وغير ذلك، وباجتماع هذين العاملين يمكن القول إن سورية والسوريين على طريق التنمية والعودة إلى ممارسة الحياة الطبيعية.