عن المتاهة الليبية

صادق الشافعي.jpg
حجم الخط

صادق الشافعي

ما زال أفق المتاهة الليبية مفتوحاً على تعقد وتصعيد لا يقف في وجهه مانع وقادر على وقفه.
«كثرة المعنيين بالشأن الليبي» وتنوع مصالحهم وأجنداتهم على ما بينها من اختلافات بعضها واسعة، إضافة الى نوع وشكل وأهداف التدخل، تزيد المتاهة توهاناً وتعقيداً واستمراراً.
وفي ليبيا الكثير مما يغري، والكثير مما ينذر ويدفع الى الاهتمام والتدخل، والى الحرص على وضع موطئ له قدم فيها، وعلى دور في صياغة أوضاعها وترتيب أمورها ودورها.
فهناك أولاً النفط ومشتقاته وقرب مناطقه وآباره من السواحل الأوروبية وسهولة وصوله إليها وجودته، لدرجة ان بعض الدول الأوروبية كيفت بعض صناعاتها مع هذا النفط وخصائصه.
وهناك إطلالة ليبيا الواسعة على البحر الأبيض المتوسط وما تعد به أعماقه من نفط وغاز بكميات تجارية كبيرة، إضافة الى المشاريع الاستثمارية فيه، والى الاعتبارات الأمنية. وهناك الحدود الليبية الشاسعة والصحراوية في الغالب، التي يصعب السيطرة عليها مع عدد من الدول الإفريقية، ما يمكن ان يشكل تهديداً في أي وقت لوجود ومصالح واسعة وهامة لدول أوروبية لدى تلك الدول. وتهديداً لاستقرار وأمن دول بعينها، خصوصاً مع وجود قوى متطرفة وإرهابية مسلحة لا تملك السلطات الليبية السيطرة عليها، ذات خلفية دينية وارتباط بحركة الاخوان المسلمين.
ثم، هناك الطموح التركي، بالنفوذ والسيطرة السياسية والاقتصادية والأمنية وعلى خلفية الطموح بإرث الخلافة العثمانية وامتيازاتها.
الغائب عن «كثرة المعنيين بالشأن الليبي» هو «النظام العربي» بدوره الموحد، والمسؤول، ويغيب معه أهل ليبيا وأصحابها عن كل دور وتحرك.
التحركات والمبادرات والمؤتمرات الدولية لا تنجح حتى الآن بتقديم حلول يمكن الاستبشار بها، والركون إليها.
اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلنته روسيا وتركيا لم يشكل حلاً بذاته ولا مقدمة لحل. ورغم ان الطرفين الليبيين المتصارعين أعلنا الموافقة عليه، ثم أكده مؤتمر برلين الأخير، فإنه ظل، ولا يزال، يتعرض لخروقات شبه يومية من كلا الطرفين.
ثم ان هذا الاتفاق، فشل، في التطور الى تفاهم دائم، لا حين نجحت روسيا بجمع الطرفين في موسكو أوائل هذا الشهر، ولا بعد ذلك.
أما مؤتمر برلين فعلى الرغم من اتساع المشاركين فيه بالذات من الدول الأوروبية ومن علو مستوى التمثيل (رؤساء دول ورؤساء وزارات)، فإنه لم ينجح في فرض حضور جلساته على قائدي طرفي الصراع في ليبيا رغم وجودهما في بلد ومكان انعقاد المؤتمر.
المؤتمر اكتفى بالعموميات: الالتزام بتطبيق الحظر القائم على السلاح الى ليبيا، ووقف تقديم دعم عسكري للأطراف المتصارعة، والدعوة الى تشكيل لجنة عسكرية من طرفي الصراع بهدف تحويل الهدنة الحالية الى وقف دائم لإطلاق النار.
عموميات معالجة مسار الوضع الليبي تذكر بعموميات معالجة الازمة السورية في مؤتمرات شبيهة (مؤتمر فيينا قبل 4 سنوات، مثلاً).
لم تنجح عموميات معالجة مؤتمر برلين في:
- وقف استمرار خرق اتفاق وقف إطلاق النار.
 -  منع السراج من القول علناً أنه يرفض اللقاء مع حفتر، ولا القول «نحن لا نتردد في التعاون مع أي طرف لمساعدتنا لدحر العدوان على طرابلس... بأي طريقة كانت»، ولا إقراره الضمني باستقبال مرتزقة عن طريق تركيا ومشاركتهم في القتال.
- وقف إرسال تركيا معدات عسكرية الى قوات حليفها السراج. ولا وقف إرسالها المرتزقة، المستمر والمتواصل ولا يبدو أنه سيقف إرادياً قبل الوصول للرقم المستهدف.
مؤتمر برلين بنتائجه المعلنة، يعيد الى الأذهان أيضاً، اتفاقية الصخيرات الذي تم الاتفاق عليها وإقرارها قبل 5 سنوات، ولم يقدر لها التحقق والتطبيق على الرغم مما تميزت به وحوته من تحديدات وتفاصيل ومسميات.
 العامل الإضافي والهام الذي ساعد في دفع الدول الأوروبية الى سرعة وجدية التحرك للقيام بدورها في المتاهة الليبية هو اتفاقية تحديد مناطق السيادة البحرية الذي وقعته تركيا مع حكومة فايز السراج في 27 تشرين الثاني 2019.
الدول الاوروبية، اعتبرت الاتفاق عموماً نوعاً من التطاول التركي.  ورأته بعضها عدواناً على حقوقها في مياه البحر المتوسط وتهديداً لأمنها الوطني. (قبرص واليونان، وأيضاً مصر- وان بطبعة مختلفة).
وهذا ما يزيد من احتمالات وتوقعات ان يشهد الموقف الأوروبي تطوراً وتصاعداً بموازاة استمرار المتاهة الليبية وعدم وصولها الى بر الحل النهائي، او على الأقل، دون تحقق تطورات واقعية ومقبولة على طريق الحل.
وعودة الى الدور العربي، فان الاشارة الوحيدة للتحرك، جاءت من الجزائر التي أعلنت دعوتها أطراف الصراع في ليبيا الى اللقاء في ضيافتها للتباحث في حل سياسي. في تكرار مشابه للقاء واتفاق «الصخيرات» وبأمل ان يكون أكثر استيعاباً للمتغيرات.
لكن هذه الدعوة لم تجد التجاوب المطلوب من الأطراف الليبية المعنية، ولا وجدت اهتماماً وتلقفاً لها من الدول العربية لتطويرها الى مبادرة عربية جامعة. وتحولت بالتالي، الى مجرد لقاء تشاوري للدول المحيطة بليبيا، وكلها تقريباً إفريقية غير عربية.
ولا تزال المتاهة الليبية مفتوحة على كل الاحتمالات والتطورات حتى تتحرك جماهير الشعب الليبي لتفرض وجودها ودورها، وحتى يتحرك النظام العربي، وحتى يصل طرفا النزاع الى القناعة بأن لا حل الا بالتفاهم.