إدلب.. حدود الفعل التركي

حجم الخط

يقلم هاني عوكل

 

وقائع جديدة طفت على سطح الأحداث في محافظة إدلب التي تشهد عملية عسكرية متواصلة للجيش السوري تهدف إلى استعادتها بالكامل من المعارضة التي تحتمي بتركيا، التي أمهلت الجيش السوري حتى أواخر الشهر الجاري للانسحاب خلف نقاط المراقبة التي أقامتها أنقرة في إدلب.
في بحر الأسبوع الماضي قتل ثمانية عسكريين أتراك بقصف مدفعي من قبل الجيش السوري في إدلب بينما كان يتجهز الأخير للسيطرة على مدينة سراقب التي تلتقي فيها طرق استراتيجية، ما استفز أنقرة وقابلت القصف السوري بقصف تركي لمواقع تابعة للجيش السوري أدى إلى مقتل العشرات حسب مصادر تركية.
من الطبيعي أن تحدث هذه المواجهة المحدودة، إذ لا يمكن للجيش السوري أن يتقدم في إدلب دون أن ينذر تركيا بعواقب وجودها هناك، إلى جانب أن روسيا تريد بشكل غير مباشر "فرك أذن" أنقرة لسبب يتعلق بعدم استجابة الأخيرة لاتفاق "سوتشي" الذي يقضي بفصل المعارضة السورية المعتدلة عن المتطرفة.
بطبيعة الحال لا الجيش السوري ولا التركي يريدان معركة مباشرة، لكنّ ثمة تضاربا في المصالح بين الطرفين، بمعنى أن دمشق مصممة على استعادة إدلب التي سيطرت تقريباً على نصفها، وأما أنقرة فهي تريد الحفاظ على مواقعها في إدلب وتأمين الحماية المعقولة للمعارضة السورية التي تدعمها.
ما يثير الدهشة تهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي تطالب الجيش السوري بالانسحاب خلف نقاط المراقبة التي أنشأتها تركيا، وهي تهديدات لا تخرج عن كونها أكثر من "زوبعة في فنجان"، إذ تدرك أنقرة أن هناك طرفا روسيا يدعم الجيش السوري في إدلب.
ربما لم تتوقع أنقرة أن تأتيها ضربة قاسية كالتي حصلت في إدلب مؤخراً، وقد تكون اللغة التصعيدية جاءت من باب عدم تكرار مثل هذا الفعل، وأغلب الظن أنها لن تقوم بعملية عسكرية في إدلب ولا يحزنون، لأنها لو أرادت ذلك لفعلت الآن، خصوصاً أن الجيش السوري سيطر على سراقب وتجاوز نقاط المراقبة التركية.
بالتأكيد تدرك أنقرة مخاطر الاستعجال في عملية عسكرية بإدلب، وهي لا تريد أن تخسر روسيا مرةً أخرى، ولذلك تأتي تهديداتها ضد الجيش السوري لحفظ ماء وجهها وكذلك للاستهلاك الإعلامي، ومن غير المستبعد أن تعالج هذا الموضوع مع موسكو، وأردوغان عبّر عن ذلك حين قال إنه سيبحث التصعيد الأخير مع نظيره بوتين.
الرئيس التركي برّر تدخل قواته في إدلب استناداً إلى اتفاق أضنة الذي وقّع بين الطرفين التركي والسوري العام 1998، وأغلب بنود الاتفاق تركزت على "تقليم أظافر" حزب العمال الكردستاني وإنهاء كافة نشاطاته في سورية، لكن ما يجري الآن يتناقض حقيقةً مع تمسك أردوغان بهذا الاتفاق لتبرير وجود قواته.
بموجب اتفاق أضنة تدخلت تركيا في شمال سورية وأضعفت الوجود الكردي إلى حد كبير، وأما وجودها في إدلب فلا علاقة له أبداً بالاتفاق المذكور، وإنما مرتبط بأمرين: الأول حماية المعارضة السورية وإقواء ظهرها حتى تكون لها حصة في أي عملية سياسية مقبلة.
الأمر الآخر يتعلق بمشروع تركي يهدف إلى إقامة حزام ديمغرافي سوري منسجم مع تركيا في الموقف، وبالتالي تكون أنقرة قد قضت تماماً على أي تواصل جغرافي أو ديمغرافي كردي مع أكراد تركيا، إلى جانب ثمن خروج تركيا من سورية وهو ثمن سيجري نقاشه عاجلاً أم آجلاً مع روسيا.
بالتأكيد سيواصل الجيش السوري تقدمه في إدلب، سواء ببطء أو بالوتيرة السريعة التي يقوم بها حالياً، وفي المقابل ستحاول تركيا تدويل ما جرى لانتزاع قرار يقضي بوقف إطلاق النار والعودة إلى التهدئة التي سبق أن تقررت وأجهضت على فترات كان آخرها قرار 12 كانون الثاني بين الطرفين الروسي والتركي.
أكثر ما تريده أنقرة حالياً هو وقف إطلاق النار وعودة الجيش السوري إلى خلف نقاط المراقبة التي أنشأتها، وقد تحدث بين الوقت والآخر اشتباكات بين الجانبين لترسيخ مناطق نفوذهما، لكن من المستبعد أن نسمع عن حرب مباشرة بينهما بصرف النظر عن كل أنواع التهديدات بينهما.
وكالعادة وعلى الرغم من دعمها القوي للجيش السوري، ستحاول روسيا مسك العصا من المنتصف، فهي تريد لدمشق استعادة إدلب بالكامل وهذا صحيح، لكنها أيضاً لا تريد أن تضع كل بيضها في سلة سورية، وستحاول تفهم الاحتياجات الأمنية التركية والتباحث مع أنقرة حول السبل الممكنة لمعالجة ملف إدلب.
بالسيطرة على خان شيخون ومعرة النعمان وسراقب، يكون الجيش السوري قد سيطر على مفاصل مهمة في محافظة إدلب، ولولا الوجود التركي ربما لكان أنهى ملف هذه المحافظة أواخر الشهر الجاري، ومع ذلك سينتزع إدلب من المعارضة السورية إن عاجلاً أم آجلاً.
المرحلة الحالية أشبه بمرحلة كسر العظم، ومحافظة إدلب تلخص هذا التشابك في المصالح بين الأطراف الدولية المؤثرة في النزاع السوري، وكلما اقترب الجيش السوري من إطباق السيطرة على هذه المحافظة، تضيقت مصالح تركيا في سورية ومعها انفرجت عقد تسوية النزاع السوري.