تحولات النظام الدولي (1)

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

عاطف أبو سيف

ثمة حاجة ماسة لفهم التحولات الدولية بشكل أعمق؛ من أجل فهم ما يجري حولنا ولوضع طموحات ترامب الهدامة لتصفية القضية الفلسطينية في سياقها الصحيح. واستكمالاً لما تحدثنا عنه الأسبوع الفائت، فإن التحولات في المجتمع الدولي لم تكن وليدة اللحظة، ولا يمكن النظر إلى أطروحات ترامب على أنها نتيجة سريعة لتدخل فجائي؛ إذ إن مثل هذه النظرة من شأنها أن تقلل من نجاعة مقاومتنا لإمكانية تنفيذها ضد رغبتنا. إن واحداً من دروس التاريخ الحديث فيما يتعلق بقضيتنا الوطنية أن المجتمع الدولي لم يتمكن لو للحظة من الوقوف في وجه رغبات الحركة الصهيونية، وأن شعبنا كان دائماً يدفع الأثمان الغالية أمام صمت العالم وموافقته، وفي أضعف لحظات إيمانه حزن بعض أطرافه وتعاطف معنا. لكن الحزن والتعاطف لم يجلبا لنا الكثير من الحقوق للأسف.
المؤكد أن المجتمع الدولي على شاكلة تنظيمه الحديث الذي ظهر مع بدايات القرن العشرين، مع نقاط ويلسون الأربع عشرة، نجح في أن يرسم منظومة علاقات متداخلة بين أعضائه اتسمت بالنزوع للهيمنة ومنح حقوق للبعض أكثر من البعض الآخر. ولم يكن نظام الفيتو إلا التعبير الأبرز عن هذا الاختلال الذي لا يمكن وصفه إلا ضمن التمييز السلبي والاستعمار الجديد. فحين يتم منح بعض الأعضاء الحق في الاعتراض المطلق دون وجود آليات لكبح جماح بعض الدول، خاصة الولايات المتحدة الأميركية، لاستخدام هذا الإجراء الذي تم تسميته «حق» وهو باطل، فإن النظام الدولي قسم نفسه إلى مستويين في إعادة إنتاج لمقولات الاستعمار القديمة ذاتها. وربما أن الأفكار لا تختفي عبر الزمن لكنها تأخذ أشكالاً مختلفة.
وفيما كان النظام الدولي يدعو إلى تفكيك الاستعمار ومنح المستعمرات حريتها، كان يفعل ذلك من أجل إعادة إنتاج المؤسسة الأكبر في تاريخ الاستعمار، كما يذهب منتقدوه، والمتمثلة في الأمم المتحدة، حيث باتت العضوية فيها أسمى ما قد ترغب فيه الدول الجديدة من أجل التحصل على امتيازات الولوج إلى مؤسساتها المختلفة مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وكل ما أفرزه عالم بريتنوودز من مؤسسات مالية دولية. والنتيجة الأولى هو الاستقراض والتبعية الاقتصادية نزولاً عند رغبة خبراء المؤسسات الدولية المعروفة بالتعديلات الهيكلية التي تعني ضمن أشياء كثيرة المشروطية السياسية التي تعني الدول المستدينة تحت رحمة تصورات الخبراء التطويرية. في المحصلة يتم تفكيك الدولة الجديدة بدلاً من إصلاحها تحت حجة مواءمة بناها وهياكلها للخطط المقترحة من قبل الخبراء. وعليه تمت إعادة هيكلة مقولات الاستعمار عبر ممارساتها دون الحاجة لتبني نفس المقولات والتصريح بها. فالقوي يحكم وعلى الضعيف أن يستمع جيداً ويلتزم يما يقرره خبراء القوي. والمحزن أن مثل هذه الإجراءات أدت إلى انهيار نظم اقتصادية صاعدة في بعض الدول حديثة العهد بالحرية، وتم إغراقها بالديون وتم إفشال تجاربها الديمقراطية وتفكيك مؤسساتها السياسية الصاعدة.
ومع هذا، فإن وتيرة الحرب الباردة ظلت لعقود ضامنة لعدم تفكك هذا النظام لأنه عُني بحماية مصالح أقطابها: أي روسيا بوصفها قائدة الشرق والولايات المتحدة زعيمة معسكر الغرب، مع وجود قوى أقل قيمة في المعسكرين. وبطريقة أو بأخرى تم تقديم هذا الاصطفاف بوصفه حماية لمصالح بعض القوى الصاعدة وبعض الثورات والشعوب الباحثة عن الحرية. وكانت موسكو وبكين تقومان بذلك ضمن وتيرة التنافس على الريادة مع واشنطن. وربما أن هذا التنافس بصرف النظر عن أسبابه الأيديولوجية أو المادية، نجح في كبح جماح اللاتوازن الذي اتسم به النظام الدولي. وفيما يتعلق بالفلسطينيين فلم يتغير شيء رغم دعم معسكر الشرق للثورة الفلسطينية. وبعملية حسابية، فإن هذا الدعم كان مرهوناً بحقيقة ثابتة أن إسرائيل باتت حقيقة لا يمكن تجاوزها، وربما أن بعض هذه المواقف مرهونة بطبيعة الحرب الباردة نفسها، أي العداء لإسرائيل؛ لأنها حليفة واشنطن الأولى في الشرق الأوسط، الحليف الطبيعي باستثناء الخليج الحليف لواشنطن. وبعبارة أخرى فإن طرفي النظام الدولي ومعسكريه كانا متفقين على النتيجة الأولى للصراع العربي الإسرائيلي، وهي النتيجة التي أفرزها النظام الدولي في بداياته والمتمثلة بأن وجود إسرائيل موضوع غير قابل للجدل. ولم توافق أي من دول المعسكر الشرقي الفلسطينيين يوماً على السعي لإنهاء إسرائيل بقدر إقرارها بحقوق سياسية للشعب الفلسطيني. ولنلاحظ أن زخم الدعم الذي تلقاه الفلسطينيون كان لحظة تبني المنظمة لفكرة الدولة الديمقراطية وبعد ذلك للمشروع المرحلي الذي مهد لإقرارها بنتائج النكبة الكارثية.
ومع تفكك جدار برلين وتسابق دول شرق أوروبا لإعادة تمتين علاقاتها مع إسرائيل اختلف الأمر كثيراً، وبات واضحاً أن القيم والمثل الذي ظل النظام الدولي يتغنى بها لم تعن شيئاً في حقيقة الأمر. لذا كان على الفلسطينيين وأمام انحسار العلاقات مع أوروبا الجديدة إعادة موضعة علاقتهم مع النظام الدولي من أجل تجنب المزيد من الخسائر. ولكن أيضاً هذا كان ضمن «براديم» حل الدولتين الذي يؤمن به الجميع إلا الطرف الوحيد القادر على تنفيذه، أي إسرائيل. ونجح الفلسطينيون في الحصول على الاعتراف وفي مواصلة الضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل المزيد من المواقف، لكن إسرائيل أيضاً ولأن لكل مرحلة سمة مختلفة نجحت في اختراق أفريقيا وإعادة تربيط علاقتها مع بعض قوى أميركا الجنوبية، ناهيك عن التحالفات الجديدة في وسط وشرق أوروبا وغزوها الاقتصادي وعلى صعيد التعاون مع الهند. والحقيقة أنه بالقدر الذي نجح فيه الفلسطينيون في بعض الأماكن فإن إسرائيل نجحت في أخرى. وحقيقة الأمر أن هذا بحاجة لوقفة جادة من قبل الفلسطينيين حتى يتم تدارك المزيد من الانهيارات في جبهتهم الدولية ولحماية مصالحهم السياسية في أماكن كانت مضمونة لهم. ولكن لنتذكر أن بعض هذه التحولات لا علاقة لها بقدرات الفلسطينيين أو قصورهم، بل بطبيعة التحولات الأكبر التي أصابت العالم وتفكك بعض منظوماته القديمة. ويظل السؤال الكبير هو: إلي أين يتجه النظام الدولي في عهد ترامب؟ وما علاقة ذلك بصفقته المريرة لنا؟