تأملات في عالم مُتغيّر (3)

حسن خضر.jpg
حجم الخط

حسن خضر

ما زلنا في معرض الكلام عمّا يحدث من انزياح لمفاهيم وحلول غيرها، في لحظة رمادية. وقد تناولنا في معالجتين سابقتين ترامب، الشخص والظاهرة، كتجسيد لانفصال السياسة عن القيم (بما فيها، وخاصة ما يحلو للأميركيين تسميته بالأميركية منها) ومدى ما ينطوي عليه أمر كهذا من تطبيع للانفصال بطريقة تبدو كاريكاتورية ومأساوية تماماً، من مخاطر لا في، وعلى، أميركا بل وفي، وعلى، كل مكان آخر.
ونوجّه أبصارنا، اليوم، إلى العالم العربي، وما يتجلى من انزياح لمفاهيم وأفكار وحلول غيرها. والفرضية الرئيسة، هنا: وقوع انزياح، عربياً، في مركزية المسألة الفلسطينية، وأن ثمة ما يستدعي إعادة تعريف ونظر، بما في ذلك دلالة المسألة ومركزيتها. ففي لقاءات نتنياهو، مثلاً، مع مسؤولين في بلدان عربية، كما في ردود أفعال رسمية قبل وبعد «الصفقة» ما يوحي، ويؤكد، أن ما يبدو على السطح ليس أكثر من رأس جبل الجليد العائم. لذا، المقصود بالانزياح ليس ما يبدو على السطح وحسب، بل وما يعتمل في الأعماق من تيّارات جوفية عميقة، أيضاً.
 ولا يبدو من قبيل المجازفة، مع كل ما يتجلى من جليد، وتسريبات، على السطح، القول إن كثيرين في نخب حاكمة وسائدة (التمييز بين الحاكم والسائد ضروري، دائماً، فالأوّل أداة الثاني في سدة الحكم، والعكس ليس صحيحاً) في العالم العربي، يتوددون إلى إسرائيل، بل ويركضون في اتجاهها، ويسحبون من رصيد «المسألة الفلسطينية» كدليل على حسن النوايا، ومهر صداقة، مطلوبة ومرغوبة، مع الإسرائيليين.
وإذا ما حوّلنا أبصارنا في اتجاه ما يُتداول على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي في بلدان عربية مختلفة (وبعضه لا يخلو من شتائم للفلسطينيين)، ونظرنا حتى في تصريحات بعض المسؤولين العرب، من اتهامات صريحة، وضمنية، للفلسطينيين، خاصة بعد طرح «الصفقة»، بأنهم لا يُجيدون غير إضاعة الفرص، نُدرك كم تغيّر الزمن، فالانزياح جدي وحقيقي. ومسألة فلسطين، التي لم تكن، في الباطن، مركزية في نظر البعض، لم تعد كذلك في الظاهر، أيضاً.
بيد أن هذا كله يستدعي الفهم، ويحرض على التحليل، لا على كيل الشتائم، ولطم الخدود وشق الجيوب. فمقابل كل نافذة يُغلقها التاريخ تنفتح غيرها، مع ملاحظة أن الانزياح وإن كان جديداً إلا أن مسوّغاته الأيديولوجية لا تعدو أكثر من إعادة تدوير لخردوات أيديولوجية سابقة. فالانقلاب الساداتي على الناصرية، مثلاً، تم بتوليفات أيديولوجية من نوع استثمار ما تستهلك الحرب من طاقات وموارد في التنمية العمرانية، والازدهار الاقتصادي، والتقدّم الاجتماعي، والتعددية السياسية.
ومع ذلك، وبعد مرور خمسة عقود، على لحظة تحوّل حاسمة في تاريخ مصر والعالم العربي، لا يصعب القول إن تلك اللحظة كانت بداية انسحاب مصر من دور القوّة الإقليمية، ومركز الثقل في العالم العربي، وأن ما صوّرته المسوّغات والتوليفات الأيديولوجية كخارطة طريق إلى «الجنة» الموعودة يبدو مرئياً بعين الحاضر وحطامه، الآن وهنا، نتيجة مأساوية تماماً، بالمعنى المادي للكلمة، ناهيك عن الكلفة والخسائر المعنوية والثقافية والسياسية الباهظة.
يمكن على خلفية ما تقدّم، وقد تقدّمنا خطوة إضافية، الكلام عن إعادة تدوير خردوات أيديولوجية، في لحظة الانزياح الراهنة، بطريقة تبدو فيها مركزية المسألة الفلسطينية وكأنها العائق الأكبر في وجه خارطة طريق إلى «جنّة» اقتصادية موعودة، ولكنها مشروطة بالتعاون بين العرب وإسرائيل. ولا ينبغي تجاهل ما يحيط بأمر كهذا من توابل أيديولوجية من نوع: مديح السلام، والملل من الحروب، وكراهية التعصّب، ومع ما يستدعي هذا من بلاغة الليبرالية الجديدة، الغاوية والمُغوية، بما فيها عروض الباور بوينت على شاشات كبيرة، في قاعات مصقولة ولامعة، وبما فيها تحويل قضية تاريخية، ذات حمولات رمزية، لا تُباع ولا تُشترى، إلى صفقة عقارية.
ولنقل، في معرض الفهم والتحليل، أن انزياحاً كهذا يحدث في زمن سمته الرئيسة فراغ القوّة في الشرق الأوسط، وفقدان العالم العربي لمركز الثقل، بعد خروج مصر، (وفي ظل ما يكبّلها من قيود داخلية وخارجية في الوقت الحاضر) وانهيار العراق وسورية، وكلتاهما قوّة متوسّطة، لا يمكنها، حتى في ذروة صعودها، تعويض الدور المصري، وإن كانت تستطيع العمل كنقطة تثبيت، ومركز ثقل مؤقت. هذا في الجناح المشرقي، أما في شمال أفريقيا، فالجزائر قوّة متوسّطة، ورغم أن مصيرها، حتى الآن، يبدو أفضل من مصير العراق وسورية، إلا أن حرباً أهلية على مدار عقد من الزمن، أثخنتها بالجراح.
بمعنى أكثر مباشرة، لم يكن كل ما يحدث الآن من انزياح لأفكار ومفاهيم بشأن المركزية والمسألة ليحدث، وبالطريقة الفضائحية التي يحدث بها، فوق وتحت السطح، لولا أفول مركز الثقل التقليدي، وانهيار قوى متوسّطة كان يمكنها القيام بدور المانع، ونقطة التثبيت، بصورة مؤقتة على الأقل.
ومع ذلك، وهذه فرضيتي الرئيسة: في كل ما وقع حتى الآن، وبالطريقة التي وقع بها، ما يضفي على المسألة الفلسطينية، في سياقها العربي، دلالة جديدة، ويمنح مركزيتها بعداً غائباً، أو قللت من شأنه، في الماضي، شعارات قومية ودينية. ففي الوقت الذي يبدو فيه وكأن نافذة قد أُغلقت نطلُ من نافذة تنفتح على أفق جديد. ولعل في إطلالة كهذه على مركزية المسألة الفلسطينية، والعلاقة بينها وبين «مشكلة» العرب مع إسرائيل، ما يُحررنا من الفشل في قراءة الواقع، ويمكننا من رسم ملامح ما يلوح في المدى المتوسط والبعيد. وهذا موضوع معالجة لاحقة.