ملخص مكثف لظروف ومناخ التمويل الدولي لفلسطين وعقود المؤسسات الأهلية

حجم الخط

بقلم عصام العاروري

 

من تعزيز الصمود الى تعزيز التسوية

هناك مجموعة من الأوهام والمعتقدات الخاطئة حول التمويل الدولي لفلسطين، مثلما حول كل آليات التمويل الدولي. لكن المؤكد أن الدول ليست جمعيات خيرية، وتمويلها هو تمويل سياسي بامتياز، على امتداد العقود الأربعة في الأراضي المحتلة، بدءا بل وقبل تأسيس اللجنة الأردنية الفلسطينية المشتركة، ثم بعد حرب الخليج الثانية عام 1990، حيث عوقبت م.ت.ف وحوصرت بمنع كل الدعم الخليجي عنها، وهو ما كان من أسباب دخولها عملية التسوية في مؤتمر مدريد، بتراجع كبير عن التمثيل المستقل، ووصل الأمر حد محاولة منع د.صائب عريقات ارتداء الكوفية أثناء جلوسه مع الوفد الأردني الفلسطيني المشترك. وبتنا نعلم تماما لاحقا أن م.ت.ف فتحت خطا خلفيا للتفاوض من وراء ظهر الوفد الفلسطيني المفاوض بقيادة المرحوم د.حيدر عبدالشافي، لأنها كانت تحت الضغط ولم تستطع الصمود في بيئة شكل المال السياسي فيها أداة حتى في التنافس السياسي الداخلي، وما زال المال السياسي لغاية اليوم يؤثر على الغالبية الساحقة من قوانا وأحزابنا السياسية، وما زال أداة لفرض التوازنات الداخلية، وحتى شراء الأصوات وافساد واحدة من أنبل الحركات المجتمعية وهي الحركة الطلابية. كل هذا معروف وعايشه جيلنا ولم يصبح تاريخا بعد.

منذ اعلان اتفاق اوسلو أواسط التسعينات، تدفق الدعم الدولي في فلسطين، للسلطة الوطنية الناشئة حديثا والتي لم يكن ممكنا أن تقام دون هذا التدفق للأموال. رافق ذلك انشاء أنواع جديدة من المنظمات الأهلية لم تكن معروفة ابان حقبة الثمانينات، حين كان محور العمل الأهلي تعزيز الصمود، وهو ما تعمق ابان الانتفاضة الشعبية الكبرى حين لعبت تلك المنظمات دورا كفاحيا مساندا للقوى الوطنية وكثير من تلك المؤسسات شكلت امتدادا عضويا لتلك القوى.

لكن خارطة المجتمع المدني الفلسطيني بدأت بالتغير منذ التسعينات، في اليات تمويلها وانشائها، ونشوء انماط جديدة منها، غالبا دون جذر وطني ودون مرجعيات سوى ما تضعه لنفسها، وصار الدعم منصبا على دعم ما يسمى التسوية، ونشأت لأول مرة مؤسسات تعنى بالتطبيع وأخرى متخصصة في المشاريع الاقليمية مثل البحث عن حلول للمشاكل المائية والبيئية دون انهاء الاحتلال، حتى العديد من المنظمات التي كانت جماهيرية وتقوم على العضوية، اما تم تحويلها الى منظمات أهلية مغلقة او انقرضت، ومنها العديد من الأطر الشبابية والنسوية.

وطوال تلك الحقبة وحتى بداية الألفية الجديدة بقي دعم التسوية هو الهدف الأول للتمويل.

احداث 11 سبتمبر محطة جديدة

شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 انعطافة جديدة، بتحول نوعي جديد في موضوع التمويل، حيث أضيفت مهمة جديدة للتمويل هي "مكافحة الارهاب" وبالفعل أصبح موضوع الارهاب قضية تؤرق العديد من المجتمعات، ونجحت دولة الاحتلال وحلفائها الأقرب في ربط عدد من التنظيمات الفلسطينية بالارهاب لتسهيل محاربتها، في مناخ دولي شكل الارهاب هاجسا له، دون ان تعنى دول العالم في معالجة جذور الارهاب الحقيقية الكامنة في الاحتلال والقهر والفقر والقمع والأنظمة الاستبدادية، مع استخدام اشكال في منتهى القسوة في ارهاب الدول وشن الحروب العدوانية وابادة ملايين البشر.

أقرت الادارة الأميركية ما اسمته أمر مكافحة الارهاب عام 2001، وأنشأت ما أسمته شهادة مكافحة الارهاب والمعروف اختصارا بالانجليزية (ATC) حيث بات كل من يريد الحصول على تمويل أميركي يتعهد أولا بتوقيع تلك الوثيقة الفضفاضة والتي تضع قيودا واشتراطات سابقة لتوقيع العقد بعشر سنوات ومستمرة بعده، وتعرض الموقعين لمساءلة قانونية فضفاضة أدت الى ايقاع غرامات بعدد من المؤسسات الدولية. وفي حينه رفضت غالبية المؤسسات الأهلية الفلسطينية توقيع تلك الوثيقة، ولكن برنامج المساعدات الأمريكي لم يتوقف، ونشأت مؤسسات جديدة بعضها شبه وهمي، وسميت مؤسسات اللابتوب، اي ان مقرها جهاز لابتوب في بيت احد مؤسسيها، او مؤسسات البزنس كارد، على قاعدة ان غاب القط العب يا فار. ومن المفارقات أن من أوائل من وقعوا تلك الوثيقة الجامعة الاسلامية في غزة. واختلط الحابل بالنابل مع فقاعات جديدة من الأجسام التي نمت على حساب المنظمات التي لها جذزر كفاحية او ذات ملامح كفاحية.

دخول مرحلة جديدة فلسطينيا بعد الانقسام

أما المرحلة التالية في السياق الفلسطيني فبدأت بعد وقوع الانقسام البغيض، حيث وصل الدعم الدولي للسلطة الوطنية ذروته لمنع انهيارها، وبالمقابل حظيت حركتا حماس والجهاد باشكال متفاوتة الحجم من الدعم، الخليجي غالبا ولكن الاسلامي عموما، وهو ما سرع في تشديد حركة تحويل الأموال والرقابة على البنوك والحسابات البنكية وربطها بالارهاب.

صار اللعب في الساحة الفلسطينية من خلال المال السياسي مكشوفا أكثر، وتطور الى مستوى اللعب داخل الحركة الواحدة والحزب الواحد من خلال الارتباط بهذا المحور او ذاك وبهذه الدولة او تلك ممن تملك المال والطموح في تقديم خدمة للادارة الأميركية بأنها تستطيع تطويع هذه المنظمة الراديكالية او تلك.

في حقبة ما بعد الالفية او على تخومها بدأت تتغير عقود الممولين، حيث أقر الاتحاد الاوروبي ما سماها القوائم المقيدة عام 2001 ووضع عليها سبعة تنظيمات عسكرية وسياسية فلسطينية بضغوط اسرائيلية أفلحت في مناخ ما بات يعرف بالاسلاموفوبيا، ووضع مجلس الأمن الدولي قائمته للمنظمات الارهابية، وبعد أعوام 2006-2007 بدأت تظهر مظاهر الفرز بنمو منظمات ذات طابع اسلامي (نجحت في بناء شبكة خدمات ببنية تحتية هائلة- التعليم في نابلس مثالا) واخرى ذات طابع نيوليبرالي لا حدود او ضوابط لديه في الالتزام بشروط وكالة التنمية الدولية الأميركية، لدرجة ان بعض المؤسسات وراءها أجهزة أمن. وبدأ يضعف دور المؤسسات العلمانية التقدمية في المجتمع.

"الربيع العربي" مرحلة تركت اثرها

ومنذ ما سمي الربيع العربي وما تلاه تعمق الاسلاموفوبيا من ناحية ونشأ لدى الأنظمة ما يعرف بال أن.جي.او فوبيا، حيث بدأت الأنظمة بتشديد القوانين للسيطرة على حركة التمويل وتشديد القيود البنكية، وتلك قصة أخرى.

نجاحات المقاومة الشعبية وحركة المقاطعة

مع انغلاق أفق ما يسمى عملية سياسية ومع تنامي سياسات التهويد التوسعية واكتساب دولة الاحتلال مزيدا من الخصائص العنصرية، بدأ المجتمع الفلسطيني وبعض قواه بالبحث عن آفاق جديدة، كان منها العمل في مجال المقاومة الشعبية ونشوء حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، وتطوير المقاطعة المحلية لمنتجات وخدمات الاحتلال، والسعي باتجاه سياسات داخلية تعزز الصمود، ومع تحقيق نجاحات كبيرة لحركة المقاطعة بعد اقامة جدار الفصل العنصري وسلسلة الحروب المجرمة على قطاع غزة، وصدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول الجدار، بدأت حركة المقاطعة تنتشر وتزدهر، وهو ما جعل سلطة الاحتلال تصنف حركة المقاطعة بأنها ثاني أهم تهديد استراتيجي لاسرائيل بعد التهديد النووي الايراني.

أنشأت دولة الاحتلال وزارة أسمتها وزارة الشؤون الاستراتيجية، وهدفها مواجهة " محاولات نزع الشرعية عن اسرائيل في الساحة الدولية"، وأنشأت الى جانبها مجموعة مؤسسات متخصصة برصد والرقابة على المؤسسات الأهلية الفلسطينية وتشويه صورتها ومكانتها، واخرى متخصصة بالرقابة على الاعلام الفلسطيني، وثالثة للرقابة على المناهج الفلسطينية ورابعة للرقابة على منظمات الأمم المتحدة، وللأسف ان تلك الماكنة المدعومة بشبكة علاقات مخابراتية وشبكة سفارات واسعة القدرات ( ففي سفارة اسرائيل في بروكسل مقر الاتحاد الاوروبي 300 موظف) وبات الهدف أكثر وضوحا، ليس فقط اسكات الصوت الفلسطيني بل ارغامنا على تبني رواية الاحتلال وتعريفاته.

كان أول نجاح ملموس حققته تلك اللوبيات قبل عدة سنوات بالضغط على الحكومة النرويجية، وهي اقل الدول الاوروبية وضعا للقيود على التمويل، بسب تمويل من خلال منظمة المرأة التابعة للأمم المتحدة لمشروع في قرية برقة قضاء نابلس بسبب تسمية مركز نسوي على اسم الشهيدة دلال المغربي. ومن ثم نجحت تلك اللوبيات في ضرب ما عرف سكرتاريا القانون الدولي والقانون الدولي الانساني، وهي بالشراكة بين اربع- خمس دول اوروبية اوجدت الية دولية لدعم المنظمات الحقوقية الفلسطينية بما معدله 6 ملايين دولار سنيا في الفترة بين 2005- 2017، حيث تم حلها اتحت تلك الضغوط.

 

اعادة تعريف ما يسمى معادة السامية

وكان النجاح الأكبر للوبيات الصهيونية اعادة تعريف معاداة السامية تعريفا موسعا وفضفاضا وصل الى درجة سن قوانين في عدد من الدول، وفي معظم الولايات الأميركية، يعتبر الدعوة لمقاطعة اسرائيل او معاقبتها نوعا من عداء السامية، يعني صرنا احنا العنصريين ودولة العنصرية هي الضحية.

في هذا المناخ تجتاح اوروبا ودول عالمية مثل الهند والبرازيل موجة يمينية جاءت بأحزاب عنصرية في مناخ الاسلاموفوبيا وعداء المهاجرين وتماثلت دولة الاحتلال معها، وتم تعديل دليل العمليات العالمي لمشاريع الدعم الاوروبية (ويقع في 270 صفحة تقريبا، يشكل مرجعا للعقود، لكن لم يكن أحد يقرأ ذلك الملحق)، الى ان قرر الاتحاد الاوروبي بعد توصيات فريق تدقيق على مشاريعه بادراج بند صريح في عقود الاتحاد الاوروبي ابتداء من مطلع عام 2020 ووصلت عقود لعدد من المؤسسات الفلسطينية، التي بدأت حوارات مكثفة منذ تشرين الثاني الماضي لبلورة موقف حول التعامل نع تلك العقود.

دار النقاش حول مادة في تلك العقود ملخصها ان على متلقي المنحة ان يلتزم بعدم تحويل اية اموال من المنحة للأفراد والتنظيمات المدرجة على ما يسميه العقد القائمة المقيدة، وهو وان لم يذكر تنظيمات بالاسم فتلك القائمة تضم سبعة تنظيمات سياسية وعسكرية فلسطينية.

كانت الوجهة الاولى هي العمل على الغاء هذا البند، ومن خلال حوارات مكثفة مع بعثة الاتحاد الاوروبي هنا في القدس وهناك في بروكسل وبمشاركة مجموعات تضامن اوروبية داعمة لنا قيل لنا ان صيغة هذا العقد عالمية ولا يمكن الغاؤها الا عبر عمل دؤوب طويل المدى في برلمانات اوروبا.

تداعت المؤسسات الأهلية، وعبر أهم تجمعين برأي كاتب هذه السطور، هما شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية ومجلس منظمات حقوق الانسان، وبرز فيهما موقفان: موقف يدعو الى رفض تلك العقود وعدم التعاطي معها، وموقف آخر رأى الذهاب باتجاه توقيع العقود وارفاقها برسالة تحفظ تتلخص في نقطتين جوهريتين: الاولى أننا نرفض ممارسة اي تمييز في تقديم الخدمات ولن نجري اي فحص لخلفيات المشاركين في برامجنا وانشطتنا والمتعاقدين معهم والمستفيدين من خدماتنا، والثانية اننا نرفض المحتوى السياسي لتصنيف التنظيمات الفلسطينية بالإرهابية، وان كنا لن نحول أموالا لأي تنظيم لأن القانون الفلسطيني ونصوص مشاريعنا وميزانياتها الموافق عليها لا تسمح بذلك. وقد تلقينا ردودا خطية من الاتحاد الاوروبي يؤكدون فيها انهم لا يطلبون او يتوقعون التمييز في خدماتنا وبرامجنا على اساس سياسي وانهم لا يطلبون تغيير رأينا السياسي حيال اي حزب او فصيل. ورأينا أن هذا الخيار يجنبنا الوقوع في الحفرة التي نصبتها لنا اللوبيات الصهيونية وحلفائها.

وكانت هناك عشرة عقود لمؤسسات فلسطينية، وقعت سبعة منها دون تحفظات، وبقيت اخر ثلاثة مؤسسات لم توقع حتى اليوم الأخير قبل الغاء المنحة وهي مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الانسان، ومؤسسة مفتاح، ومركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي.

فتح البعض نار جهنم على هذه المؤسسات الثلاثة، من مزيج من العدميين والفاشلين والفاسدين، ومنهم من يمثل مؤسسات لم تحدث اي اثر ايجابي على القضية الفلسطينية او الشعب الفلسطيني، وبدلا من تصعيد المواجهة مع دولة الاحتلال وفي اروقة الاتحاد الاوروبي حولوها الى معركة داخلية ضد مؤسسات ثم ضد اشخاص على قاعدة التخوين والاتهام ومن خلال الاختباء وراء اجسام وهمية او حسابات الكترونية مجهولة الأب والمصدر.