بالرغم من كلِّ التطورات التي تعيشها الصحافة الجديدة على المستوى الميدانيّ وإنجازاتها اليومية، إلا أنّ لهذه الظواهر حدودًا وهي تتعرّض إلى نقدٍ شرسٍ يصل حدّ اعتبار ما يُقذفُ فيها يوميًّا من معلوماتٍ ومضامين لا علاقة له بالأخبار والإعلام، فلا يمرُّ يومٌ إلا ونصطدم بخبرٍ أو صورةٍ أو فيديو مركّب، فحريٌّ بنا أن نتساءل عن مصداقيّة خبر يُنشر على منصات الميديا الاجتماعيّة أو تعليقٍ على حدثٍ ما بالعودة إلى أدبيّات أخلاقيّات العمل الإعلاميّ، هذه القضية تطرح سؤالاً واضحًا مفاده: أين تقع المواطنة الرقمية في ميزان أخلاقيّات وقيم المهنة الصحفية؟
وفي ظل تطورات البيئة الجديدة للاتصال سمحت الميديا الاجتماعية للأفراد بإمكانية المشاركة في إنتاج المحتوى الإعلاميّ وانتشاره وتأثير ذلك على مستقبل كلٍّ منهما بعد أن تحوّل المواطن العاديّ إلى منتجٍ للمضمون الصّحفيّ User Generated Contentدون اقتصاره على التّلقي فقط، حيث اتخذت المواطنة الرقميّة Digital citizenship في العصر الرقمي أشكالاً جديدة فرضت على المواطن حقوق وواجبات تنسجم ومتطلبات هذا العصر الذي أصبح فيه المستخدم للميديا الاجتماعية عنصرًا فعالاً في العملية الاتصالية والتغطية الإخبارية للأحداث الواقعة في فلسطين زمن الأزمات، فالظّواهر الاتّصاليّة الجديدة “صحافة المواطن- صحافة البيانات – صحافة الخوارزميات” هي أحد أبرز أشكال الإعلام الجديد التي شهدت تطورًا هائلاً كمًّا وكيفًا في العصر الرقميِّ الجديد مما أدىّ إلى تغييراتٍ كبيرةٍ في بناء شبكاتٍ رقميّةٍ تكامليّةٍ واتّصاليّةٍ حديثةٍ ذاتِ أداءٍ وكفاءةٍ عاليةٍ لتوفر خدماتٍ اتّصاليّةٍ واجتماعيّةٍ، والبيئة الاتّصاليّة الحديثة التي نشهدها الآن لا تشتغل وفق منطق القطيعة بل هي تتشكل من تفاعلات الوسائط الكلاسيكيّة والوسائط الإعلاميّة الجديدة في فلسطين.
وهو ما أكدته دراسة قدمناها في إطار أشغال الملتقى العلميّ الدولي السادس الذي نظمته جامعة عبد الحميد بن باديس، بتاريخ 28-29 يناير 2020 بالجزائر. والتي جاءت بعنوان القِيمة الرّقميّة لمستخدمي الميديا الاجتماعيّة في فلسطين من منظور ما بعد الحداثّة.
وسعت هذه الدراسة إلى تقديم نموذج تفسيري لقراءة مبادئ المواطنة الرقمية وفهم أبعادها القيميّة والثقافية لمستخدمي الميديا الاجتماعية في فلسطين في ظل ما أحدثته وتحدثه التكنولوجيات الرقمية خصوصاً وأننا نمر بفترات قوية من التحولات العميقة على مستوى القيم الثقافية والإخبارية، وقمنا بتحديد عينّة عمديّة من 10 رؤساءِ تحريرٍ في الإعلام المحليِّ الفلسطينيِّ ومدراء في المؤسّسات الإعلاميّة الفلسطينيّة ونقابة الصّحفيين الفلسطينيّين، واختيار أسلوب المجموعات الصغيرة “المقابلة الجماعية البؤريّة، تكونت ايضًا من 8 أشخاص وقد راعينا في اختيارنا لهذه العينة: (المنصب، النّوع الاجتماعيّ، سنوات الخبرة). وتقديم نموذج مبادئ المواطنة الرقمية وكيفية قراءة هذه المبادئ من منظور ما بعد الحداثة بإجراء الحوار والّنقاش حول مبادئ القيّم الرقميّة لمستخدمي الميديا الاجتماعية في فلسطين وكيفية قراءتها من منظور ما بعد الحداثة.
يعد مايك ريبيل Ribble, Mik من أبرز الباحثين الذين أرسوا مبادئ “المواطنة الرقميّة” Digital citizenship والذي يساعد أسلوبه المدراء الإعلاميين على فهم ما الذي يجب أن يعرفه المواطنون عند استخدامهم للتكنولوجيا الحديثة، والاستخدام الأمثل لها وذلك عن طريق الاهتمام بالأخلاقيات، والمسؤوليات المرتبطة بالاستخدام الرقمي للمعلومات، وتتمثل محاور المواطنة الرّقميّة” في: الاحترام، التّعلمّ، الحماية، ويشتمل كلُّ محورٍ على ثلاثة مبادئ، إذ يتضمّن محور” الاحترام” مبادئ: الوصول الرّقميّ، اللياقة الرّقميّة، القوانين الرّقميّة، أمّا محور “التّعلّم فيتضمّن مبادئ: “الاتّصالات الرقمية، محو الأميّة الرّقميّة، التّجارة الإلكترونيّة، في حين يتضمّن محور”الحماية”، مبادئ: “الحقوق والمسؤوليّات الرّقميّة، الأمن الرّقميّ والحماية الذّاتيةّ، الصحّة والسّلامة الرّقميّة.
وهو ما دفعنا للتساؤل هل من نموذج تفسيري لفهم وقراءة هذه المبادئ في أبعادها القيميّة والثقافية لمستخدمي الميديا الاجتماعية في فلسطين من أجل فهم وتفهم ما أحدثته وتحدثه التكنولوجيات الرقمية خصوصاً وأننا نمر بفترات قوية من التحولات العميقة على مستوى القيم الثقافية والإخبارية؟
ومن أبرز النتائج التي توصلت إليها الدراسة :
- بعد مناقشة الباحث للعرض المفصل للنتائج التي تمخضت عنها جلسات “المجموعة البؤرية”، تبين للباحث أن هناك انخفاض بمستوى وعي مستخدمي الميديا الاجتماعية في فلسطين بأبعاد المواطنة الرقميّة، التي تشمل الاحترام الرقمي-التعليم الرقمي-والحماية الرقمية، لا سيما الحقوق الملكية والفكرية وتطبيقاتها في التكنولوجية الرقمية، وتبين للباحث بأن النسبة الأكبر من عينة الدراسة لم يتعرضوا للتدريب على مبادئ ومؤشرات المواطنة الرقمية بسبب قصور المؤسسات الإعلامية المتخصصة بنشر ثقافة المواطنة الرقميّة.
- تبين للباحث أن غياب برامج التوعية والتثقيف المختصة بالمواطنة الرقميّة في فلسطين جعلت المستخدمين ينغمسون في “العوالم الافتراضية” وينعزلون عن العالم الواقعي، مما عزز من “وهم المشاركة”، وسجن المستخدمين في عوالم منغلقة تصبح فيها المضامين المختلفة عن معتقداتهم موضوعا للسخرية والانتقاد والرفض كما يعزز هذا الانغلاق الهويات الضيقة ورفض الآخرين، ومن جهة ثانية الانتشار السريع للمضامين والأخبار الزائفة.
- أثبتت الدّراسة بأنّ عديد المؤسسات الإعلامية الفلسطينية عمدت إلى تطوير نوع جديد من الممارسات، وهو التحقق من المعلومات “Fact checking”، للتقليص من ظاهرة الأخبار المفبركة والزائفة المنتشرة في عصر الرقمي، والعمل على إعادة استخدام المحتوى بعد التحقق منه ومعالجته وهو ما يسمى “تـنضيد المحتوى content curation وذلك لغياب التربية على وسائل الإعلام الرقمية في فلسطين digital media literacy.
ومن توصيات الدراسة :
توصي الدراسة بأنه وفي ظل تطورات البيئة الاتصالية الجديدة من منظور ما بعد الحداثة بات لزامًا على المؤسسات الإعلاميّة الفلسطينية أن تتعاطى مع “شريكٍ ذكيٍّ” تفهم احتياجاته وتدرك واقعه وتحترم عقله، مع ضرورة الانتباه إلى سرعة تطوّر قدرات هذا “المتفاعل” يومًا بعد يوم على صعيد الذّوق والحسِّ الصّحفيّ والسّلوك الرّقميّ المعقّد، فإن حقل المواطنة الرقمية بات يفرض التفكير في منظومة أخلاقيات خاصة به تتفاعل مع التحولات المشار إليها، وهذا ما يدفعنا إلى التفكير في ابتكار الأخلاقيات المندمجة Integrated Ethics لأن وسائل الإعلام الفلسطينية أصبحت مطالبة بتطبيق محتوى قوانين الإعلام ومدوّنات السلوك والمعاهدات الدوليّة، فضلًا عن الحاجة الملحَّة لتطوير آليات التنظيم الذاتي والرصد بشراكة مع جمهور مستخدمي صحافة المواطن الرقمية، وذلك انسجامًا مع مقوم التفاعلية الذي يطبع هذه الصناعة. مع ضرورة وجود جهة قانونية تتابع الحماية الأمنية للمستخدمين.
كما يجب العمل على إنشاء مدونة سلوك موحدة على المستوى الوطني الفلسطيني تختص بالضوابط المهنية والأخلاقية عند الاستفادة من المضامين التي يؤمنها المواطن العادي وينشرها عبر الميديا الاجتماعية عند تغطيته الإخبارية للأحداث الواقعة, ضمن استراتيجية بناء منظومة فكريّة جديدة وخطاب سياسي وإعلامي، يستند إلى كشف الزيف التزوير، خاصة وأنّ العالم اليوم تسوده مرجعيات مشوهة، فرضت نفسها بقوة على المواطن العربي والفلسطيني بشكل خاص، والتي عمدت إلى قلب الحقائق إلى أكاذيب، والأكاذيب إلى حقائق، وجعلت من نفسها الحكم والمنطق في تقديم القضيّة الفلسطينية.