دحلان ورؤية في المشهد السياسي

حجم الخط

بقلم د. أحمد يوسف

 

 

 دعني أختلف معك يا صديقي!!
لا أخفي صداقتي للنائب محمد دحلان، ولكنَّ صديقي ليس دائماً على حق، ففي السياسة مساحات للالتقاء وأخرى للخلاف والحوار، وقد تعلمنا من أدب العرب أن "اختلاف الرأي لا يفسد للودِّ قضية"، وأن لغة الحوار ينبثق منها النور أحياناً وتجليات الخلاص.

في الحوار الطويل الذي أجراه دحلان مع صحيفة (العرب) اللندنية في الثاني من مارس 2020، أشار إلى كثير من النقاط التي أشاطره الرأي فيها، وقد أبدع في التعبير عن موقفه منها، وخاصة تلك المتعلقة بعجرفة الرئيس أبو مازن ومواقفه التي أنهكت جبهتنا الداخلية وفرَّقت جموعنا، وجعلتنا لقمة سائغة تبتلع إسرائيل منها ما تشاء وكيفما تشاء من حين لآخر.

ليس هناك من هو أعرف بدهاليز السلطة الفلسطينية والرئيس أبو مازن أكثر من النائب محمد دحلان لطول مقامه داخل مؤسساتها المختلفة وبمستويات قيادية متعددة، ولذلك عندما يقدِّم رأياً تحليلياً داخل هذه المساحة لا يجادله فيه إلا استعباطاً من منهم على منصة التسحيج من سدنة المعبد داخل أسوار المقاطعة.. نعم؛ أتفق مع دحلان بأن الرئيس لا يريد انتخابات، والقدس مجرد ذريعة لتبرير وتأبيد زمن خلوده الكارثي في السلطة، فهو يعلم أن لا شعبية له ولا ثقة للناس في وعوده، وقد أوصلنا بمواقفه إلى حافة الإفلاس السياسي، وكانت رهاناته الهزيلة على المفاوضات لأكثر من ربع قرن، والتي لم تؤت أُكُلها في أي حين.

نقاط الاتفاق:

في الملف الفلسطيني الداخلي ليس هناك ما نختلف حوله كثيراً، فالمشهد المأزوم ومأزق الانقسام يتحمل مسؤوليته من بيده كل المفاتيح والصلاحيات وهو الرئيس عباس، حيث امتهن سياسة التهرب من اجتماع الشمل، واتسعت مساحات الخلاف معه لتتجاوز حركة حماس إلى كل فصائل العمل الوطني، إضافة لتيار وازن من الحركة يتزعمه النائب محمد دحلان. إن مشكلة الرئيس عباس هي في فرديته وأرستقراطيته السياسية، حيث لا يتحمل اختلاف أحدٍ معه، ولا يسمح لرأي آخر أن يحاججه، وكل ما في جعبته من قناعات أضحت أشبه بألاعيب ساحر، مع ما يرافق هذا المعنى من قول "ولا يُفلح الساحر حيث أتى".

إن ما أورده دحلان في حواره الطويل مع صحيفة (العرب) اللندنية يأتي في سياق مفعم بالكثير من نقاط الاتفاق والقواسم المشتركة، ولعل أبرزها ما جاء في الحيثييات التالية:

أولاً) إنهاء الانقسام وإنجاز الوحدة الفلسطينية أهداف وطنية يجب ألا تخضع لضرورات الدبلوماسية والسياسة هنا أو هناك، فالوحدة الفلسطينية ضرورة الضرورات لمواجهة الماضي والراهن والقادم من الأخطار المهددة.

ثانياً) إذا أراد عباس الترشح لأي منصب رسمي فعليه أولًا إعلان ذلك، ثم عليه ثانياً إقناع الشعب لانتخابه، وعليه ثالثاً تقبّل قواعد الديمقراطية وروح المنافسة الشريفة مع مرشحين آخرين دون تشكيك أو تهميش وتخوين.

ثالثاً) أبو مازن يقول إنه يريد انتخابات، ونحن لا نشكك في تصريحاته المعلنة، لكن واقعياً هو مضطر أو بالاختيار وضع مفتاح الانتخابات الفلسطينية بيد المحتل بحجة القدس دون التفكير بمخارج وحلول خلَّاقة، حيث إن شعبنا قادر على الإبداع فيها.

رابعاً) المعرقل للمصالحة الفلسطينية هو الأكبر ثم الكبير، وذلك هو العرف الفلسطيني، وفي المشهد الراهن مفاتيح معالجة الانقسام بيد قيادة السلطة، ولو فعلّت مفاتيح الحل فإنها إما ستنجح وإما ستكشف المعطِّل، أي أنها منتصرة في الحالتين، وقيادات السلطة تعتبر المصالحة مع حماس بمثابة طلاق رسمي مع إسرائيل والتنسيق الأمني الفلسطيني- الإسرائيلي.

خامساً) إن حماس حركة سياسية براغماتية، وما يراه البعض تناقضاً في مواقفها قراءة خاطئة؛ لأنها تمتلك ديناميكية التكييف والتعايش مع متطلّبات وشروط كل مرحلة من مراحل الصراع حسب مصالحها، ومن يظن بأن حماس حركة دراويش أو انتحاريين أو عابثين فهو في مكان غلط.. نعم؛ لحركة حماس خياراتها العقائدية وتحالفاتها مع تركيا وإيران وقطر، لكنها تدرك قيمة وأهمية علاقاتها المصيرية مع مصر.

نقاط الاختلاف:

هناك ملفات متعددة نختلف حولها مع الصديق محمد دحلان، وإن كانت مساحات الخلاف من النوع الذي سيضيق مع الزمن؛ باعتبار أن التدليل على صحة أو خطأ الموقف لن تجدي نفعاً الآن، لأن ما يدور حوله النقاش ما زال في طور الغيب، والاستشراف وحده أو قوة التحليل مجرد حجة قد تعزز من منطق أحد الأطراف أو ترفع من وتيرة الجدل. في السابق كان هناك الكثير الذي نختلف حوله، ولكننا اليوم نتفق ونختلف وما يجمعنا أكثر مما يفرقنا. لذلك سأعلق على بعض ما أورده في حواره الطويل مع صحيفة (العرب) من زاوية الاتفاق والاختلاف وما تحتضنه مساحة القواسم المشتركة من توافقات.

أولاً) حول وجود رابط بين انتشار التطرّف وفكر الإخوان المسلمين، أكد دحلان عمق تأثير وتحفيز جماعة الإخوان للإرهاب الدولي على نطاق واسع، فليس هناك حركة عنف متأسلمة مسلحة دموية إلا وانطلقت من رحم الإخوان المسلمين، فكل الشخصيات والحركات والتنظيمات نبعت وتنبع من رحم الجماعة!! لعل هذا الاتهام الظالم هو أحد سقطات صاحبنا وأحد مداخل التحريض والاتهام المتكررة له؛ لأن حركة الإخوان في السياق الرسالي جاءت من أجل استعادة مكانة الأمة وكرامتها وأن تكون لها مكانة تحت الشمس بعدما سقطت مكانتها بعد الحرب العالمية الأولى ووقوع عالمنا العربي تحت نير الاستعمار الغربي، وكانت قضيتنا الفلسطينية أولى ضحايا سقوط الخلافة العثمانية. جاء الإخوان كحركة تحرر وبعث للأمة، إلا أن تجربتهم في التمكين أخفقت وتعرّض المشروع الإسلامي لأكثر من انتكاسة، حيث كانت دول القابلية الاستعمارية تلقى الدعم من الواجهات الغربية ذات القوة والتأثير العسكري والسياسي.

أما أشكال التطرف ومظاهر العنف فهي تجليات لفكر الغلو وبعض المدارس السلفية التي أغلقت باب الاجتهاد، وحشرت عقل المسلمين ووجدانهم بسلوكيات ضيقة لا تصلح للتجديف في محيط حركي هو أكبر بكثير من حالة التقزيم لدين الإسلام ورسالته الإنسانية للعالمين. لا شك أن بعض الحركات الإسلامية ارتكبت أخطاءً في محاولاتها للتغيير والإصلاح، كما أن ردات فعل الأنظمة المستبدة قد غذَّت هي الأخرى فكر التطرف والإرهاب. وبحسب معرفتي البحثية والحركية فإن الإخوان ومنذ نهاية السبعينيات قد اتخذوا موقفاً جامعاً بعدم اللجوء للعنف كوسيلة للتغيير، واعتماد الصوت الانتخابي بدل البارود في أية عمليات ديمقراطية للتداول السلمي على السلطة. هذا النهج ما زال هو طريق الإخوان، أما من ابتعدوا عن هذا النهج وحادوا عنه فهم ليسوا من الإخوان في شيء. إن الإخوان الذين عرفناهم على مدار أكثر من نصف قرن من العيش والممارسة هذه هي منطلقاتهم، ورغم حجم المظلومية القاهرة التي أصابتهم، فإن أدبياتهم لا تدعو بغير ذلك، مع عدم نفي وقوع أخطاء بشكل شخصي من حين لآخر.

ثانياً) أشار دحلان إلى أن نظام أردوغان الإخواني صامد؛ لأنه يرقص على حبل التناقض الرفيع بين الشرق والغرب، ويستغلّ الجغرافيا لأغراض عدوانية معلنة. وفي سياق لغة الدبلوماسية الجميلة، أشار دحلان بالقول: "بصراحة؛ أنا لا أكره الرجل، ولا أحمل له الضغينة، رغم كل هجماته المسعورة عليّ شخصياً، لكن علينا دائماً أن نتذكّر بأن في تركيا شعباً شقيقاً أقرب إلينا من حبل الوريد".

مع تفهمي لحالة التحامل تجاه الرئيس أردوغان من قِبل دحلان، إلا أن صديقي "أبو فادي" ذهب بعيداً في لجِّ الخصومة والتي انعكست سلباً في تقييمه للرجل ومكانته التي يرى فيها الكثير من شعوب أمتنا أنه يمثل زعيماً لها، وأن تجربة تركيا في النهوض باقتصادها ومؤسساتها التعليمية ومكانتها الأممية هي نموذج لا يمكن التشكيك فيه، كما أن تجربتها الديمقراطية لا يوجد في المنطقة العربية من يضاهيها، وأن الانتخابات البلدية الأخيرة أثبتت أن الكرسي ليس ملكاً لأحد ومن يحدد من يجلس عليه هو الصندوق وأصوات الناخبين. نحن اليوم لسنا بعيدين عن العام 2023 حينها سيكرم أردوغان أو يسلم الراية بلا كلام. هكذا علمتنا تركيا منذ سقوط الخلافة، حيث جاء مصطفى كمال ثم أعقبه عصمت إينونو، والذي أُطيح به في عملية ديمقراطية عام 1950 ليعتلي عدنان مندريس (رحمه الله) سدة الحكم. بعد الانقلاب على مندريس في 27 مايو 1960 تولي العسكر مشهد الحكم والسياسة، وهنا اختلت الموازين وصارت الانقلابات سمة ذلك العهد، أما اليوم فالمشهد مختلف، ولن يكون هناك إلا انتقال سلس للسلطة.

لقد عرفت تركيا منذ مطلع السبعينيات، ونشرت أكثر من كتاب عن تجربة الإسلاميين فيها، وقناعتي هي أن هذا البلد هو ذخر لأمتنا حتى وإن اختلفنا في تقييم شخصية أردوغان وتجربته السياسية في الحكم.

إن للدول مصالح تتجاوز وجودها كأحجار على رقعة الشطرنج، وهي تبرر سلوكياتها في إطار هذه المصالح.. نعم؛ كمسلمين نأمل أن تكون تحركات أردوغان في سياق المصالح التي تحكمها المبادئ، وألا تكون دوافع تحركه في سوريا إلا لحماية المستضعفين في إدلب الذين تتعرض حياتهم للإبادة والتهجير بذريعة الإرهاب!!

ثالثاً) العالم سيصدم حين يرفض أردوغان نقل السلطة بسلاسة حال خسر التصويت مستقبلاً؛ لأن صناديق الانتخابات كانت طريقه للوصول، ولن تكون بوابة المغادرة بالنسبة إليه.

يا صديقي يا أبا فادي.. في الحقيقة؛ إن تركيا في طبيعتها الديمقراطية هي أوروبية النزعة، وهي لن تخلع هذا الثوب، لأن ذلك معناه خسارة كل شيء، وهي اليوم جزء من الغرب، حيث اقتصادها ونظامها السياسي ومنظومتها الحياتية مرتبطة بدرجة كبيرة بمحيطها القائم على العولمة بمفهومها الغربي، وكذلك فالحوكمة مقارنة بشرقنا العربي هي أقرب للحكم الرشيد.

أخيراً.. إذا عملنا بالقاعدة الذهبية: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، فإن مساحات اللقاء ستزداد، وسوف تتعاظم حالات بناء الثقة بما يؤهلنا جميعاً للعمل في إطار الشراكة السياسية والتوافق الوطني.