ربما في أزمان قديمة وغابرة حدث هذا المشهد النادر في التاريخ، ان يرث الغزاة القدامى قلاع من سبقوهم وان يُرى الى الآن بعض من آخر استبدال ديانة كبرى كالمسيحية، معابد الإله جوبتير إله روما الدينية بالكنائس المسيحية، التي تحمل أسماء تلامذة المسيح واستبدال تمثال جوبتير بالصليب المقدس او صورة مريم العذراء. لكن الواقع ان هذا التحول قد حدث ليس لان أتباع المسيح في القرون الأولى لانتشار المسيحية كانوا يحملون سيوفاً، ولكن لأن روما نفسها هي التي غيرت ديانتها واعتنقت المسيحية، فكان لزاماً عليها ان تقيم معابدها الجديدة على انقاض ديانتها القديمة، وهو الحدث في التاريخ الذي يماثل دخول أهل مكة وقريش في الإسلام، والذي اقتضى هدم اللات والعزى وتنظيف بيت الله من الأصنام.
لكن ها نحن مع عمر بن الخطاب والفاتحين المسلمين كما مع المسيحية نفسها، حتى في عصور وأزمان كان الناس فيها اقل تطوراً قياساً بعصرنا الحالي، نتعرف على هذا القدر من الاحترام والتحضر الذي بلغته الشعوب والأمم القديمة لديانات الأقوام والشعوب الأخرى. فلم يشأ عمر أن يصلي في كنائس المسيحيين وإنما تعهد بحفظها لهم. ويمكن أن نسأل اليوم سؤالا ساذجاً هل كان ثمة هيكل أو معبد يهودي هدمه عمر أو المسلمون، وأقاموا على أنقاضه مسجداً هو المسجد الأقصى اليوم؟
لقد كانوا عقلاء رحيمين بأعدائهم أو بالشعوب التي حكموها، وتعتبر وصايا أبو بكر والخلفاء الراشدين لجيوشهم خلال الحرب من ارقى القواعد والضوابط التي تحول دون ارتكاب الجيوش لجرائم الحرب، واحترام قوانين الحرب المعروفة في زماننا على حد سواء. ورغم انهم حاربوا باسم الدعوة إلى الدين الا انهم لم يتصرفوا او يعاملوا اتباع الديانات الأخرى بوصفهم وحدهم شعب الله، وتركوا لرسالتهم السمحاء التي تنطوي عليها ديانتهم أن يكون لها في النهاية الكلمة الفصل في إقناع هذه الشعوب، الاقتناع بالدخول في ديانتهم.
وهكذا بالرغم من حقيقة ان اليونان والرومان والفرس قد مكثوا هنا زهاء ألف عام من السيطرة واحتلال الشرق، إلا ان الفتح العربي الإسلامي هو وحده من منح هذه المنطقة بالأخير هويتها الثقافية الإسلامية العروبية التي تتميز بها الى يومنا هذا. وعاشت اليهودية كما المسيحية طوال هذا التاريخ في ظل هذه الهوية الحضارية، تحتفظ كل منهما بخصوصيتها الدينية إلى ان بلغنا عند مستهل القرن الماضي، زمن تحول الرأسمالية إلى الإمبريالية، واختراع المسألة اليهودية وفيما بعد إسرائيل الصهيونية.
ولكن وكما كانت القدس زمن الباباوات الطائشين خلفاء الأباطرة الرومان، هي بما تحمله من رموز هي الهدف، فربما يجدر التذكير الآن بالسؤال الذي طرحه دايان في أيامه الأخيرة على فراش الموت: أين إذن يا سادة ذهب الصليبيون من هنا؟
لا تتورطوا في حرب الرموز التي لها هالة القداسة في شحذ عاطفة الناس، أو ليست هذه الدعوة هي ترجمة ما صاح به بن غوريون بعد حرب حزيران 1967 أي بعد احتلال إسرائيل القدس، ان انسحبوا واخرجوا من هناك لأن كتفي إسرائيل ليستا كتفي هرقل، لا تستطيعان حمل مكة والفاتيكان معا أيها اليهود. ان العالم العربي والإسلامي يرثى له وهو ممزق ومفكك ومثقل بالحروب الداخلية والجانبية، نعم لكن ألم يكن هذا هو الوضع زمن الصليبيين مع دولة الفاطميين؟
لست اعرف كيف لإسرائيل أن تغير هنا هوية ثقافية عمرها ألف وأربعمائة عام؟ بالتصدي لأشد رموز هذه الثقافة وهويتها، وهو الفعل الذي يتماهى واجتثاث تراكم عمره مئات السنين، لا يمكنه ان يتأتى إلا بالقضاء على العنصر العربي والإسلامي، الذي يجسد في وجدانه وحضوره المادي على هذه الأرض هذه الهوية الثقافية.
لم تقو الإمبراطورية الرومانية بهيبة سيفها على هزيمة المسيحية، وكانت رسائل الرسول بولس أقوى من بلاغة خطيبها الشهير تشيشرون. لكنها بسهولة استطاعت القضاء على ثورة باركاخوبا والمكابيين في القدس، وهدم الهيكل الذي يدعي اليهود انه كان مقاما على هذه التلة التي تسمى جبل الهيكل.
ولكن هل يمكن ان نطرح السؤال الآن لمناسبة ما يجري في القدس، ان كان باركاخوبا والمكابيون قد امتلكوا يا بنيامين نتنياهو بسالة وقوة وشجاعة المقدسيين الفلسطينيين الذين يدافعون اليوم عن المسجد الأقصى؟ بينما ودائما في حضرة التاريخ المقارن هذه المرة، كان بمقدور المسلمين الأوائل هزيمة بيزنطة وفارس معاً بحد السيف.
ان المسألة واضحة أيها السادة ابحثوا في قوة الرسائل لا في قوة السيوف. وان المقارنة اليوم بين الإسرائيليين الأوائل بن غوريون وتلامذته وبين الإسرائيليين الأواخر أرئيل شارون وتلامذته، لتوضيح هذا الموقف. إذا كنا سنرى اليوم إلى مجموعة القفزات الباهرة بل والمدهشة التي حققتها إسرائيل في غضون الأعوام الثلاثين الأولى من إنشائها، بإرجاعها الى قوة هذا التماهي الثقافي العلماني تماما والحضاري تماما، ولكن المنفصل عن تراث ديني مغرق في الرجعية والتخلف. لم يتردد بن غوريون في الحسم ضده عام 1949، وهو الذي يطبع ثقافة الدولة اليوم بطابعه، وبحيث لا تبدو ثمة دلالة أقوى من هذا التحول على السقوط والانهيار للمشروع الإسرائيلي، باضمحلال الاحتلال أولا الذي عبرت عنه الحرب الأخيرة على غزة، وحرب نتنياهو الفاشلة على بوابات القدس مع المقدسيين المرابطين والمرابطات.