وقف إطلاق النار في إدلب: نجاح تكتيكي تركي إلى جانب ضعف سياسي

حجم الخط

بقلم: جاليا ليندشتراوس، ودانييل راكوف، ورامي دانيال



في الاجتماع، الذي عُقد في موسكو في 5 آذار 2020، واستمر نحو 6 ساعات، وافق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على وقف القتال على خطوط النار في إدلب، وإيجاد ممر آمن مساحته 6 كيلومترات إلى جنوب وشمال الطريق السريع M4، والقيام بدوريات مشتركة للقوات الروسية والتركية على طول الممر. في أعقاب هذه الاتفاقات، أوقفت تركيا عملية "درع إدلب"، التي بدأتها في 27 شباط الماضي، دون أن تحقق أهدافها - إعادة قوات نظام بشار الأسد إلى ما وراء مواقع المراقبة التركية في إدلب وإلى الخطوط التي حددها أردوغان وبوتين في سوتشي، في سنة 2018. فعلياً، وافقت أنقرة، كأمر واقع على الأقل حتى الآن، على قبول بقاء نظام الأسد في المناطق التي سيطر عليها مجدداً في محافظة إدلب. مستقبل مواقع المراقبة التركية في المحافظة ليس مضموناً، وعلى ما يبدو، ستضطر تركيا إلى إخلاء جزء منها قريباً.
بعد فترة سيطرت فيها تركيا على منطقة كبيرة في شمال غربي وشمال شرقي سورية، يمكن أن تشكل الاتفاقات التي جرى التوصل إليها في موسكو منعطفاً لزيادة مطالبة نظام الأسد بانسحاب تركي من الأراضي السورية. بحسب الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بين أردوغان وبوتين، في تشرين الأول 2019، توقف تقدُّم القوات التركية في شمال شرقي سورية، وهذه المرة أيضاً، اضطر الجيش التركي إلى التخلي عن جزء من إنجازاته على الأرض جرّاء الضغط الدبلوماسي الروسي. باستثناء وقف إطلاق النار والتعهد الروسي بدرس إخراج شركة الأمن الخاصة "فاغنر" من القتال في ليبيا (تدعم الوحدات هناك قوات الجنرال خليفة حفتر ضد حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، المدعومة من تركيا)، لم تحقق تركيا إنجازات سياسية. وعلى الرغم من أن جولة القتال الحالية في إدلب انطوت، بالنسبة إليها، على ثمن باهظ، مقتل عشرات الجنود الأتراك، فإن وقف إطلاق النار سيسمح لقوات نظام الأسد والوكلاء الإيرانيين والمؤيدين له باستعادة قوتهم وتنظيم صفوفهم من جديد، قبل السيطرة النهائية على محافظة إدلب.
خلال جولة القتال في محافظة إدلب في الأسابيع الأخيرة، تجسد تضارب مصالح حاد بين روسيا وتركيا في سورية، وأيضاً، في الوقت عينه، عدم رغبة متبادلة في صدام طويل الأمد - الأمر الذي سمح لروسيا بالمناورة عملياً على كل الأطراف، للدفع قدماً بمصالحها. التقدير أن روسيا سمحت بالتصعيد كي تتيح لنظام الأسد السيطرة مجدداً على أجزاء من المنطقة لإبعاد نيران المتمردين عن القيادة العسكرية الروسية في قاعدة حميميم. في المقابل، وعلى الرغم من التلميحات بشأن اتخاذ عقوبات ضد تركيا، شبيهة بتلك التي اتُخذت في أعقاب إسقاط تركيا طائرة عسكرية روسية في تشرين الثاني 2015، فإن روسيا أظهرت تسامحاً حيال الإصابات الكبيرة التي لحقت بالقوات السورية، وأيضاً حيال تركيز جزء من النيران التركية على "حزب الله"، وعلى وكلاء آخرين لإيران.
تشكل هذه التطورات تذكيراً بالقيود السياسية على تركيا، على خلفية محاولتها انتهاج سياسة مستقلة والسير في خط متعرج بين روسيا والغرب. وعلى الرغم من الادعاء بوجود مصلحة مشتركة بين أوروبا والولايات المتحدة بشأن منطقة إدلب، وعلى الرغم من محاولة استخدام الضغط على الاتحاد الأوروبي بواسطة دفع آلاف اللاجئين نحو الحدود بين تركيا واليونان، فإن أردوغان لم يفلح في تجنيد تأييد كبير في الدول الأوروبية أو في حلف شمال الأطلسي. تهديدات تركيا بفتح الحدود أمام عبور اللاجئين في اتجاه الاتحاد الأوروبي سُمعت منذ وقت ما، وتُعتبر في أنقرة "ورقة رابحة"، ستجعل من الصعب على الدول الأوروبية رفض المطالب التي تطرحها. مع ذلك، كان نجاح التهديدات حتى الآن، جزئياً فقط، وزيارة أردوغان إلى بروكسل، في 9 آذار، لم تثمر نتائج كافية في نظر أنقرة: فقد نشرت الصحف أن الاتحاد الأوروبي مستعد لتحويل نصف مليار يورو فقط إلى تركيا من أجل الاعتناء باللاجئين من سورية. من شبه المؤكد أن تفشّي فيروس كورونا برّر، في نظر الأوروبيين، اتخاذ خطوات متشددة لإيقاف اللاجئين على الحدود التركية - اليونانية، وغض النظر عن الردود العنيفة لقوات الأمن اليونانية. يبدو أن موسكو أيضاً راضية عن تحرك اللاجئين في اتجاه الاتحاد الأوروبي، لأنها تسعى منذ سنوات لتقديم نفسها أمام الاتحاد على أنها قادرة على كبح موجات اللاجئين من سورية ومن ليبيا، في مقابل تعاون أوروبي مع خطط روسية لتسوية سياسية وإعادة إعمار اقتصادي لهاتين الدولتين. لهذا السبب يساهم الضغط التركي على أوروبا في هذا السياق في الدفع قدماً بأهدافها.
الولايات المتحدة هي أيضاً، وباستثناء تأييد لفظي للعمليات العسكرية التركية في إدلب، لم تستجب حتى الآن إلى طلب أنقرة، خلال جولة القتال الحالية، نصب بطاريات صواريخ باتريوت في جنوب تركيا. يمكن أن نفهم أن قرار الإدارة الأميركية له علاقة بقرار تركيا شراء منظومات دفاع جوي من طراز S-400 من روسيا. هذه المنظومات، إلاّ إذا غيّرت أنقرة بخلاف كل تصريحاتها خطتها، من المتوقع أن تصبح عملانية في نيسان 2020، وهي قد أوجدت توترات من الصعب تجسيرها بين تركيا وحلفائها في اتحاد شمال الأطلسي.
إن التحدي الذي تواجهه تركيا جرّاء موجة واسعة من اللاجئين مستقبلاً من منطقة إدلب، والتي يمكن أن تضيف نحو مليون شخص (اقتُلعوا من منازلهم في جولة القتال الحالية) إلى أكثر من 3 ملايين ونصف مليون لاجئ سوري موجودين على أراضيها، لا يزال على حاله، حتى لو بقيت الحدود بين تركيا وسورية مغلقة حتى الآن. الغضب الشعبي التركي جرّاء وجود اللاجئين في الدولة يزداد. والسبيل الوحيد لمنع موجة لجوء إضافية، هو إيجاد منطقة مخصصة للذين غادروا منازلهم في شمال إدلب، حيث ظروف الحياة هناك أكثر قساوة. ثمة إمكان آخر، هو نقل النازحين من إدلب إلى شمال شرقي سورية، لكن ذلك لن يسمح بعودة اللاجئين من تركيا إلى سورية، إذا كان هناك احتمال واقعي للقيام بذلك. في جميع الأحوال، ستحتاج تركيا إلى مساعدة من مؤسسات دولية أو من دول أُخرى، كي تتمكن من تقديم رد على هذا التحدي.
ثمة نقطة إضافية يجب الانتباه إليها تتعلق بجولة القتال الحالية في إدلب، هي قدرة الجيش التركي في مجال استخدام طائرات دون طيار، ذات قدرات هجومية. على الرغم من ضرورة التعامل بحذر مع الأرقام التي تقدمها تركيا بشأن خسائر الجيش السوري الكبيرة، فإن القوات التركية وجهت ضربات قاسية إلى هذا الجيش بوساطة استخدام أكثر من مئة طائرة من دون طيار. الأتراك، مثل إسرائيل، ضربوا منظومات الدفاع الجوي الروسي من طراز SA-22 التي يحوزها الجيش السوري، كي يثبتوا أنها لا تؤثر في حرية عملياتهم العسكرية، ومن أجل إحراج روسيا.
أرادت الحكومة التركية، من خلال النشر الواسع والمنسق في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي لنتائج هذه الهجمات، تقديم نفسها على أنها الدولة الوحيدة التي قاتلت وأصابت بصورة كبيرة قوات الأسد في الحرب الأهلية السورية، وبذلك هي جديرة بأن تحظى بتأييد الدول الغربية. لكن حتى الآن، أثمرت الحملة نتائج جزئية فقط. أيضاً من هذه الناحية، لم تنجح أنقرة في تحويل نصر عسكري إلى إنجاز سياسي.
جولة القتال الأخيرة في إدلب يمكن أن تشكل بالنسبة إلى إسرائيل حالة اختبار لأزمة حادة (من المحتمل أن تنشأ) مع روسيا بشأن المعركة بين الحروب التي تديرها في الأراضي السورية. التجاهل الروسي لهجوم إسرائيلي مهم نُفّذ في سورية، في 14 آذار (بحسب التقارير، جرى الهجوم على منشأة لإنتاج سلاح كيميائي في سورية)، يدعم التقدير بأن إسرائيل تحظى بحرية عمل كبيرة نسبياً، بينما تركز موسكو على اللاعبين الآخرين العاملين في سورية.
تدل جولة القتال الحالية أيضاً على أن الولايات المتحدة أيدت كلامياً عمليات عسكرية تركية في إدلب، ولكن لم يترافق هذا الدعم بخطوات عملية على الأرض - الأمر الذي يعزز النظرية السائدة بأنه على الأقل في المستقبل المنظور، سيكون دورها في بلورة مصير سورية محدوداً فقط. وبذلك الدور المركزي لروسيا، بالإضافة إلى الدور الثانوي جداً للولايات المتحدة، سيقيد من اتساع هامش التحرك التركي في مواجهة نظام الأسد، وعملياً، يزيد من الضعف التركي في العلاقة بروسيا. يبدو أيضاً أن موسكو هي الطرف الدولي الوحيد القادر على لجم أنقرة في الوقت الراهن.
ضعف تركيا السياسي وأيضاً التوتر المتزايد بينها وبين اليونان، يمكنهما أن يشجعا استمرار التوجه الذي برز منذ كانون الأول الماضي - تلميح من جهة تركيا إلى إمكان تطبيع جديد للعلاقات مع إسرائيل، ولو بهدف الحؤول دون عزلة سياسية ولإبعاد القدس عن شريكتها اليونان. أيضاً دون تطبيع علني، فتحت إمكانات لتعاون محدود بين الدولتين بشأن الاستعداد للوضع المستجد في سورية. مع ذلك، فإن فرص نجاح خطوات من هذا النوع لا تزال ضئيلة.

عن "مباط عال"