كوفيد التاسع عشر (1 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

لا أعرف من ابتدع هذا المصطلح لوصف فيروس كورونا.. لكنني رغبت باتخاذه عنواناً، لتسجيل فكرتيْن:
الأولى، استغلال الأزمات والمحن الإنسانية لأغراض أيديولوجية؛ فمع بدء تفشي كورونا في الصين، قال البعض حينها: إنه عقاب من الله للصينيين على ما اقترفوه بحق الإيغور.. ولما انتشر الوباء خارج الصين، ووصل بلاد المسلمين، قالوا: إن هذا عقاب من الله لنا على آثامنا وخطايانا.
ربطُ الكوارث الطبيعية والأوبئة برضا وغضب الآلهة، فكرة موغلة في القدم، وكانت الشعوب البدائية تقدم القرابين لقوى الطبيعة حتى تأمن بطشها، أو لتحوز على رضاها، فتُنعم عليها بالخيرات.
وهذه الذهنية تطورت فيما بعد، لتصبح أداة إرهاب في يد السلطة، فمثلاً في أوروبا القروسطية؛ كانت الكنيسة ترى في المجاعات وأوبئة الطاعون والكوليرا وغيرها فرصة ذهبية لتخويف الناس منها باسم الرب، فتجعلهم يتجمهرون تحت وصايتها، يتوسلون إليها للتوسط عند الرب ليخفّف بلاءه عنهم، فيصبحون بذلك أكثر خضوعاً وعبودية لها.. وهذه الوصاية والإخضاع بالطبع لا تعنيان فقط سلطة رمزية، بل سلطة زمنية أيضاً، والكثير من المكاسب المادية.
في زمن الكورونا، يبدو أن تلك العقلية ما زالت حاضرة، وتفعل أفاعيلها في الناس البسطاء.. فترى بعض "رجال الدين" يصرون على ربط الكورونا بغضب الله وعقابه للبشر.. فيصفون فيروسات الكورونا بأنها جند من جنود الله يسلطها أينما شاء.. وفي ذلك الوصف مغالطة خطيرة.
لا شك أن الفيروسات مخلوقات، مثل مليارات الكائنات الأخرى، خلقها الله سبحانه كما خلق الكون كله.. ولكن إذا قلنا: إنها جند لله يرسلها لعقاب قوم ما.. فهذا يعني أنه لا يجوز لنا مقاومة هؤلاء الجند، لأن في ذلك تحدياً لإرادة الله، وبالتالي علينا الاستسلام لهم، والرضا بما كتبه الله، والانتظار حتى يختفي "الجنود" من تلقاء نفسهم.. وغني عن القول: إنّ هذا الطرح يتناقض مع بديهيات الإسلام، فالله أمرنا بالأخذ بالأسباب، والنبي أمرنا بالتداوي.
مناسبة هذا الحديث، مشاهدتي لبعض تسجيلات على "يوتيوب": الأول لحاخام يهودي يقول: إن خلو الكُنُس من المصلين، لهو أشد خطراً من "كورونا"! والثاني لقسيس يقول في عظته أمام حشد من المصلين: إياكم أن تهجروا الكنيسة، أو تستمعوا لتعليمات وزارة الصحة، فذلك ما يريده الشيطان! والثالث: لداعية إسلامي يستنكر إغلاق المساجد، ويدعو المسلمين لارتيادها، وعدم الامتثال لتعليمات الحكومة! والرابع من إيران، حيث تجمّع المئات أمام ضريح ديني، يريدون خلع بوابته، واقتحامه ليلعقوه بألسنتهم، ويتبركون منه! والخامس: رجل في أحد المساجد يدعو الناس لمغادرته، خشية من تفشي العدوى.. فيما يصرخ العشرات في وجهه غاضبين، وبعضهم يقول: "إذا كنت خائفاً على نفسك صلِ في البيت، أما هذا فبيت لله، ولن نسمح بإغلاقه! والسادس لجمهرة من المصلين (في عمان، ونابلس) يؤدون صلاة الجماعة في شارع عام، خلافاً للتعليمات الصحية!
أمام هذه المشاهد، وغيرها، تبرز ملاحظات عديدة: البعض يعتبر أن تأدية الطقوس الدينية أهم من الإنسان نفسه، والأضرحة والمعابد أهم من حياته.. ونلحظ أيضاً شيوع عقلية التواكل، أي العقلية العاجزة، المستكينة، السلبية على الدوام، والتي مثلتها تاريخياً "العقيدة الجبرية"، وهو تيار فكري ظهر في العصر العباسي، ينزع عن الإنسان قدرته على إحداث أيّ تغيير، ويدعو للتسليم بقضاء الله دون اعتراض.. وخطورة هذا التيار لا تكمن فقط في فهمه المغلوط والناقص لظواهر الطبيعة (بما فيها الأوبئة)، بل لارتباطه في السياسة، حيث وظفت السلطة أنصار الجبرية في دعوة الناس لعدم الاعتراض على سياسات السلطة، باعتبار أن الخليفة يمثل الله، وأنّ ما يحصل في البلاد من بلاوى ومصائب إنما هي إرادة الله التي لا رادّ لها!
فهل فهمنا المغلوط للآية الكريمة (لَن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) عبارة عن امتداد للعقيدة الجبرية؟ وهل إصرار بعض الدعاة على عدم غلق المساجد، وإبقائها عامرة بالمصلين.. محبة في الله ودينه أم خوف من خلوها من المريدين والأتباع؟ (أي جمهوره وجمهور حزبه)، وهل الخوف من إغلاق الأضرحة سببه الخوف من خسارة كنز مالي كبير؟ وهل إقامة صلاة الجماعة في الشارع العام سلوك بريء، أم هو تحد للحكومات، واستعراض للقوة؟
عندما قررت الحكومات في معظم الدول الإسلامية إغلاق المساجد، بالتنسيق مع وزارات الأوقاف، فعلت ذلك حرصاً على صحة الناس، وخشية من تفشي الوباء، وتماشياً مع روح وجوهر الدين، وانسجاماً مع سنة النبي الكريم.. فلماذا يزايد البعض ويستهتر بصحة الآخرين ويقامر بحياتهم؟
أما الفكرة الثانية، فهي أنسنة الوباء، أو عولمته.
مع بدء انتشار الوباء تبرعت اليابان بمعدات طبية للصين، وقد كتبوا على الصناديق عبارة: "لدينا جبال وأنهار مختلفة، لكننا نتشارك ذات الشمس والقمر والسماء".. وفي المقابل، أرسل الصينيون كمامات لإيطاليا، وكتبوا على الصناديق مقطع من قصيدة قديمة "نحن أمواج من ذات البحر".
عادةً، في الكوارث الطبيعية تتداعى دول وشعوب العالم لنجدة المنطقة المنكوبة.. لكن هذه المرة الكرة الأرضية بأكملها منكوبة.. حيث وصل الوباء لأكثر من 160 دولة.. ومع ذلك، معظم الدول تتعاون فيما بينها، لمكافحته، فحتى إغلاق الحدود على أي دولة، يخدمها بمقدار ما يخدم الدول المجاورة لها.. ويبدو أن "كوفيد التاسع عشر" وحّدَ الشعوب ضد همّ إنساني مشترك، وأيقظ فيهم إنسانيتهم، وجعلهم يتعالون على الخلافات.. إلا أميركا..
فما زالت أميركا تفرض عقوبات على إيران، بل وعلى كل دولة تساعدها في مسعاها لمجابهة الوباء! علماً أن إيران من أكثر الدول تضرراً من الوباء، واستمرارية تفشيه يزيد من فرص انتقاله إلى بقية العالم.. وفي سياق متصل، حاول ترامب الضغط على شركة ألمانية على وشك اختراع مصل مضاد لكورونا، لشراء براءة الاختراع، والاتجار به، بحجة أنه سيخصصه للشعب الأميركي.. وكأنَّ الأميركيين أهم من بقية الشعوب! وأرباحه أهم من صحة البشر!
"كوفيد التاسع عشر" وحّد شعوب الأرض، لكنه كشف معادنها أيضاً..