كوفيد التاسع عشر (2 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

مُشاهدة صور تداعيات محنة "الكورونا" تفطر القلب، وتبعث فيه الأسى والأحزان.. أهم العواصم صارت مدن أشباح، الشوارع خالية من المارة، المسارح بلا جمهور، المقاهي بلا زبائن، المساجد ودور العبادة بلا مصلين، حتى الكعبة الشريفة.. كل دولة أغلقت حدودها، وأقفلت مطاراتها، وانزوت إلى نفسها.. التغيرات التي أصابت سلوك الناس تثير القلق: لم يعد أحد يصافح أحداً، صار كل شخص مشتبهاً به، وإذا اضطررت لمقابلة صديق ترشه بالمطهرات كما لو أنه وباء، أو تعقم يديك خشية من العدوى.. هذا ضروري وصحي، لكن النفس تخاف من التقلبات الكبيرة في أنماط الحياة.
نعم، نخشى انهيار عوالمنا الخاصة التي بنيناها على مدار عقود طويلة، واعتدنا عليها.. رغم مرارتها وصعوبتها.. نخشى أن نُصاب، أو نفقد أحبة لنا.. وهذا كله قلق إنساني مشروع.
ولكن، كما للحقيقة وجهان، لكل مصيبة فوائدها..
مع إعلانات الطوارئ في أغلب دول العالم، وفرض ما يشبه حظر التجول، وشل مرافق الحياة.. ستكون فرصة للأرض لتأخذ استراحة قصيرة.. وللنظام البيئي أن يعيد ترتيب نفسه من جديد.. لتستحم الشوارع بالأمطار، ثم تتنشف بدفء الشمس.. لتهنأ العصافير بسماء بلا طائرات.. وللسلاحف والسحالي والسناجب أن تتكاثر بهدوء في البراري النظيفة.. وللأسماك أن تسبح حرة في بحار دون بارجات ولا غواصات.. وللأشجار كي تنقّي أجواءنا من ملوثات المصانع، وعوادم السيارات.
لنترك حدود الدول المقفلة والخائفة دوما تنعم بسلام، ولو مؤقت، دون تهديدات الحروب.. لتطرد الجوامع والكنائس روادها، لعلها تطهر أرواحهم من حيرتها، وقلوبهم من النفاق، والتدين الشكلي.
لتتوقف الاجتماعات وورش العمل التي بلا فائدة، والمناسبات الاجتماعية التي صارت ميداناً للنفاق الاجتماعي، ونموذجاً لثقافة الاستهلاك الترفي والاستعراضي، ولتُمنع كافة المسيرات الحزبية، والمنصات الخطابية التي لم تنتج سوى قطعان من التابعين، وخطباء شعبويين أشبعونا كذباً ووعوداً.
لنُغلق المدارس والجامعات شهراً أو شهرين، فنجرب أساليب جديدة في التعلم، تساوي بين الطالب والأستاذ، بمنهاج حر، يجرد المدرس من سطوته الأبوية، ويعيد للطالب إحساسه بكينونته وثقته بقدراته.
لنلتزم بيوتنا قليلاً، فنعيد اكتشاف علاقاتنا الأسرية، وبنائها من جديد، ولندفئ أبناءنا بالحنان، دون تكنولوجيا..
لتغلق كل الحدود المصطنعة، ولتتقوقع كل مدينة على نفسها، ليتذكروا معاناة الأسرى والمعتقلين، وليحسوا بآلام غزة المحاصرة منذ سنوات.
فلتغلق كل البنوك والبورصات، لنعيد للإنسان احترامه كإنسان، دون الأخذ بالاعتبار رصيده البنكي، ونشاطه في سوق المال.
ما أصاب كوكبنا من ضُر، وما عاشه العالم من ذعر ورعب، فرصة لنا جميعاً لنعيد التفكير بماهيتنا، ولندرك حجمنا الحقيقي في نظام الكون، لنتواضع قليلاً، وقد عرفنا أن فيروساً بالغ الصغر، أصابنا في مقتل، وكشف ضعفنا، وهشاشة حضارتنا.. فكل جيوش العالم وبارجاته وطائراته وصواريخه تقف عاجزة أمام هذا الفيروس اللعين.. فنعي أن كل ما حققه الإنسان من منجزات، وما بناه، وما سيبنيه.. تؤكد أننا ما زلنا ضعافاً أمام جبروت الطبيعة وظواهرها، رغم أننا حيدنا بعضها، وسخّرنا بعضها الآخر لصالحنا، لكن الطريق ما زال أمامنا طويلاً وشاقاً.. وهي فرصة أيضاً لنجدد ثقتنا بالعلم، ونسقط عنا الخرافات.. فالعلم وحده من سينقذنا.. والله سبحانه حثنا على العلم.. وهي فرصة أيضاً للدول التي أنفقت المليارات على سباق التسلح، وأهدرتها في حروبها العبثية أن تسخّر تلك الأموال والموارد لبناء المعامل والمختبرات والمشافي.
مع أمنياتي ودعواتي لكل المصابين بالشفاء، ولكل الناس بالنجاة.. ولهذه المحنة أن تنتهي.. لكني لا أمانع أن تستمر "الكورونا" حتى نهاية هذا العام، فعلى ضوء أداء الأشهر السابقة، وقد تبين أن كل مصيبة تتبعها أخرى أشد منها.. أخشى أن تنتهي "الكورونا" فتداهمنا كارثة أخطر.. على الأقل كارثة تعرفها، أفضل من كارثة لا تعرفها، وقد تعودنا على "الكورونا" وصار بمقدورنا التعايش معها.. وتلك من سخريات القدر..
ولا بد لنا من القول أنّ ما نراه اليوم من صور حزينة، وتداعيات اقتصادية خطيرة، وأحداث كارثية على مختلف الصعد هي بداية المخاض لعالم جديد، عالم ما بعد "الكورونا" وقد نحتاج لزمن طويل نسبياً لبلورة هذا العالم المختلف، بكل تجلياته النوعية والكيفية؛ فالتجربة الإنسانية التاريخية علمتنا أن التراكمات والمتواليات هي التي تصنع الواقع الجديد، وتكيّف صيرورته. وأحياناً يحصل التغيير الجوهري بسبب حدث صغير، أو خطأ وقع بالصدفة، أو بسبب غباء مسؤول، أو نتيجة اجتهاد عالم.. وقد أظهرت تداعيات أزمة "الكورونا" أن الدول التي لديها نظام إداري متطور قادر على التعامل مع الأزمات والطوارئ، هي التي ستمتلك المستقبل (وربما تكون الصين)، وحالياً أي دولة ستطور لقاحاً ضد الفيروس، ستكون أكثر أهمية وتأثيراً في النظام الدولي الجديد أكثر من كل القوى العظمى التقليدية.
بعد ذلك كله، وبالرغم منه، سنشتاق إلى سالف عهدنا، سنشتاق إلى جلسات النميمة الصباحية، وسهرات المساء، سنشتاق إلى مصافحة أصدقائنا، وعناق أحبتنا.. سيشتاق كل منا إلى ملامسة وجهه دون خوف، فهي الوسيلة الأمثل للتواصل مع الذات، والتأكد أننا أحياء.. سنشتاق إلى طبيعتنا البسيطة والفوضوية، وعدم اكتراثنا بالتفاصيل الصغيرة والصارمة.. سنشتاق أن نكحّ دون إحراج، أو نعطس دون أن ندب الذعر فيمن حولنا، وكأننا ألقينا قنبلة.. سنشتاق إلى الغرف الصفية، وساحة المدرسة، وإلى مقهى الانشراح، وإلى متحف درويش، وإلى الحسبة، ووسط البلد، وشوارعنا المزدحمة.
انتبهوا لأنفسكم، ولأهاليكم، ولا تستهتروا بالوباء.. قاوموه بالنظافة، وبالابتسامة والمرح؛ فالخوف والهلع يقضيان على مناعتكم.
من ابتدع مصطلح "كوفيد التاسع عشر"، شاعرنا الجميل علي أبو عجمية.. واقتضى التنويه.