هـــل ننجـــو مــن «كورونـــا»؟

هاني حبيب.jpg
حجم الخط

هاني حبيب

يلحظ بين الساعة والساعة تزايد مطرد في عدد المصابين بفيروس كورونا الذي تسجل التقارير الإعلامية أنه الجائحة الأكبر والأكثر تأثيراً على مستوى العالم بعد الإنفلونزا الإسبانية والحربين العالميتين الأولى والثانية، ليس بسبب سرعة انتشار الفيروس فحسب، وإنما للآثار التي يخلفها على الدول ومواطنيها.
"كورونا" المستجد الذي أقلق العالم بينما كان يستعد للاحتفال بالعام 2020، كشف إلى حد كبير عورات الدول المتقدمة التي تتغزل طول الوقت بأنظمتها الصحية وكم هي متطورة وقادرة على الاستجابة الفورية للكوارث الطبيعية وغير الطبيعية، بما فيها الصحية والوبائية.
مع كل القرارات الاحترازية والوقائية التي اتخذتها غالبية الدول حول العالم، وكذلك تشديد إجراءات الحجر الصحي المنزلي ومنع التجوال، إلا أن الإحصائيات تشي بارتفاع الإصابات بمتوالية هندسية، حيث بلغت أعداد الإصابات بالفيروس قبل أسبوع تقريباً حوالي نصف مليون إصابة، وهي الآن تتخطى 870 ألف إصابة.
لا يعني ذلك أن تلك القرارات ليست في محلها، بل على العكس أسهمت بشكل كبير في فرملة انتشار "كورونا"، لكن الدول وخصوصاً المتقدمة لم تضع في الاعتبار التعامل مع شيطان متخفٍ ولم تخصص الموارد والإمكانيات للاستجابة لمثل هذه الجوائح المدمرة على البشرية.
ثمة آثار هائلة سيخلفها فيروس كورونا على الدول، ربما قد يجعلها تراجع حساباتها من جديد وتستعد في المستقبل لهذا النوع من الجوائح، والدول القوية والمتقدمة بالفعل هي التي يمكنها تخطي النكبات في أوقات الطوارئ، دون أن تتحمل كلفاً باهظة ومرهقة.
كان ينبغي على الدول التي اجتاحها فيروس كورونا أن تتعامل معه بالجهد الجماعي المشترك، وأن تقدم المساعدات الفورية والعاجلة للدول الأكثر تضرراً منه، والأهم تخصيص موازنات كبيرة للتصدي إلى آثاره الاقتصادية التي خلفها وأبطأت بقوة عجلة التقدم الاقتصادي.
على سبيل المثال وقف الاتحاد الأوروبي عاجزاً عن تقديم المساعدات لإيطاليا التي عجز اقتصادها وبنيتها التحتية الصحية عن الاستجابة الفورية لهذه الجائحة، ووقف الأوروبيون يتفرجون على ما يجري في روما، بينما يتسلل الفيروس خلسةً إلى دولهم ويسقط واحدةً تلو الأخرى.
هذه الجائحة العارضة أربكت الاتحاد الأوروبي إلى حد أنه لم يتخذ إجراءات سريعة لمساعدة إيطاليا ومن بعدها إسبانيا، واكتفت الدول الأخرى بتفادي انتقال الفيروس إليها ودفع الضرر عنها بإجراءات محلية على المستوى الوطني، وعدم الاكتراث للتنسيق على المستوى الأوروبي المشترك.
هذا الأمر استفز رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي الذي استمع إلى قمة بين دول الاتحاد عقدت عبر تقنية "الفيديو كونفرنس"، وهدد بعدم التوقيع على إعلان مشترك إذا لم تتخذ دول الاتحاد إجراءات سريعة مالية وصحية ومنسجمة مع الحرب التي تخوضها بلاده ضد انتشار الفيروس.
أما الصحف الإيطالية فقد كانت أكثر جرأة في انتقاد الاتحاد الأوروبي، والعديد منها وصف القارة العجوز بالقبيحة والميتة، والمشروع الأوروبي إلى النهاية، في حين ظهرت إلى السطح الانتقادات البينية بين الدول الأوروبية، خصوصاً المتقدمة والأقل تقدماً، التي تمتلك التقنيات ورأس المال وتلك التي تحتاج بالفعل إليه.
بعض المواطنين الإيطاليين أنزل أعلام الاتحاد الأوروبي ورفعوا بدلاً عنه علم الصين، وكذلك أفادت التقارير تقبيل الرئيس الصربي العلم الصيني على خلفية المساعدات الفورية التي قدمتها بكين إلى بلغراد، ومثلها وأكثر إلى إيطاليا والعديد من الدول الأوروبية وغير الأوروبية.
أيضاً قدمت روسيا مساعدات طبية فورية إلى إيطاليا وحديثاً إلى الولايات المتحدة، وهذا السلوك يبين بشكل أو بآخر حجم الدول وموقعها على خريطة العالم، إذ لا يمكن المرور سريعاً على التجربة الصينية الناجعة في احتواء "كورونا"، وتوظيف القوة الناعمة لخدمة ونجدة الشعوب الأخرى.
في موسكو هناك "كورونا"، وكان يمكن لهذه الدولة الانكفاء على نفسها والاستجابة السريعة لأوضاعها الداخلية، لكنها قدمت يد العون إلى أصدقائها وأعدائها، وهذا منسجم بالتأكيد بالصعودين الصيني والروسي إلى سلّم النظام الدولي ومشاركة الولايات المتحدة الأميركية فيه.
لا شك أن دولاً ستتراجع وأخرى تتقدم الصفوف على خريطة النظام الدولي بعد هذه الجائحة التي تشهد حالياً ثورة في القيم والسلوكيات الجديدة، وإذا لم تتمكن الدول الأوروبية من مواجهة الفيروس بالطرق السريعة والفعّالة والأهم على المستوى الجماعي، فإن "كورونا" قد يصيبها في مقتل.
وقد يشهد التاريخ أن إيطاليا قد تنعى الاتحاد الأوروبي وتخرج منه إلى غير رجعة، حالها في ذلك حال بريطانيا التي تخوض حالياً حرباً ضد "كورونا" لمنع انتشاره وفضح هيبتها أمام العالم، فكلما طال أمد الجائحة تأثرت اقتصادات الدول واستنزفت مواردها أكثر فأكثر.
ثمة سلوكيات ثقافية وصحية وكذلك اقتصادية فرضها "كورونا" على الجميع، كباراً أم صغار، وهو يجعل الدول تفكر الآن في زيادة الميزانيات المخصصة للصحة العامة، على خلاف الميزانيات الكبيرة المخصصة للدفاع والتسلح والأمن الداخلي، إذ ثبت أن معركة الإنسان ليست مع نفسه بقدر ما أنها معركة مفتوحة مع الجميع وعليه أن يتحصن لتفادي اللكمات الكثيرة.
في النهاية، سينجو العالم من "كورونا" وسيتمكن من مواجهته لكن بعد أن يدفع دمه وماله والكثير من العمل للتغلب عليه، وهذه التجربة من المهم الاستفادة منها على مستوى الأفراد والدول والتحالفات الدولية، ذلك أن استخلاص العبر والدروس يكمن من فهم الإنسان لإشباع الحاجات الأساسية وإدراك أن قوته في صحته وكذلك أن في الاتحاد قوة.
نعم، يمكن للعالم أن يتجاوز سريعاً خطر الجائحة المستجدة بالتنسيق والعمل الجماعي والاستفادة من تجارب الدول التي تمكنت بالفعل من حصر الفيروس وملاحقته، وهو يحتاج بشكل عاجل إلى ضخ المليارات ومساعدة القطاعات الاقتصادية وغير الاقتصادية التي تعثرت لتحريك عجلة الاقتصاد.
هناك خوف من "كورونا"، لكن ثمة خوفا آخر من التداعيات التي سيخلقها الفيروس على الشعوب والدول، خصوصاً وأنه شلّ العالم وأضعف حركته الإنتاجية، وإذا لم يتمكن من النهوض والاستجابة السريعة لهذه التداعيات، فقد نشهد حروباً ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية.