21 أيلول 2015
ربما لم يتبق ما يُقال عن أحداث الأقصى الاخيرة وتواصل الجرائم الاسرائيلية التي تحميها وترعاها حكومة يمينية متطرفة، تستهدف في نهاية المطاف تهويد القدس بأكملها وقضم المسجد الاقصى والحرم الشريف، وتقسيمه مكانيا وزمانياً.
كل عبارات الشتم والإدانة والشجب قيلت وكُررت، كما أعيد تدوير النواح على مواقف الحكومات والدول العربية والاسلامية وقعودها وتخاذلها عن فعل شيء.
وكذا قيل الشيء نفسه عن مواقف منظمة التعاون الاسلامي بل وحتى الدول الغربية والامم المتحدة.
ذلك كله لم يعن شيئاً بالنسبة لإسرائيل لأن حاصل جمعه النهائي رطانة لغوية خالية من دسم الفعل الحقيقي.
اسرائيل تنظر بعين الاستهزاء والسخرية إلى العرب والمسلمين ومئات ملايينهم وهي تراهم غارقين في طحان حروب دموية وصراعات تستنزفهم حتى النهاية.
انجازات المشروع الايراني المقاوم والممانع في المنطقة في اثارة الحروب وتقسيم البلدان من العراق وسورية الى لبنان واليمن احالت فلسطين الى اخر جدول الاهتمام على الاجندة الاقليمية.
فكيف والامر كذلك يمكن لإسرائيل ان تحسب اي حساب لغثاء سيل تصريحات الشجب والإدانة التي تنهال بلا توقف؟ كيف لها أن تحسب اي حساب وهي لم تر ولا حتى مسيرة احتجاج واحدة او مظاهرة حقيقية في اي بلد من البلدان العربية او الاسلامية ضد ما تقوم به.
بل والانكى من ذلك ان مظاهرات التأييد والاحتجاج الخجولة التي نُظمت في فلسطين ذاتها تعرضت للقمع والضرب والإهانة من قوات امن السلطة الفلسطينية، وهو امر يغرقنا جميعا بالخجل والعار حقاً.
على كل حال يبقى السؤال الكبير والصعب، ما العمل؟ لن تكرر هذه السطور ما طالب به كثير من المخلصين لجهة استنهاض سياسة عربية واسلامية قوية وحقيقية، وكذلك مطالبة الدول التي لها علاقة رسمية مع اسرائيل بجهد مضاعف، بما في ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية او التهديد بقطعها على الاقل (الاردن ومصر على وجه التحديد). ما تتوقف عنده هذه السطور هو دور الجهات غير الرسمية في العالم العربي والاسلامي في حماية القدس والوقوف ضد تهويدها المتسارع.
التهويد المتسارع يهدف ببساطة إلى تحويل القدس كلها، وتحديداً القدس الشرقية، إلى مدينة يهودية خالصة، سمتها اليهودية هي الغالبة من ناحية السكان، والاقتصاد، والسياحة، والزوار.
لا يقع هذا هذا الهدف ضمن الملفات السرية أو غير المباشرة، بل هو هدف معلن لإسرائيل منذ احتلالها بقية القدس في حرب 1967.
وقد نجحت عبر الاستيطان وتغيير الديموغرافيا الفلسطينية في القدس الشرقية، والضغط الاقتصادي والافقار المتواصل الموجه ضد فلسطينيي القدس، على اجبار الالاف منهم على الهجرة من المدينة المقدسة، واخلائها للمهاجرين اليهود.
فشلت السلطة الفلسطينية والسياسة العربية ولجنة القدس في الوقوف امام السياسات الاسرائيلية المعلنة.
وفي حين كان التواجد اليهودي في القدس الشرقية إبان الحرب المذكورة ضئيلا جداً، فإنه الان يزيد على عدد الفلسطينيين. والفلسطينيون المتبقون في القدس يعيشون حالة يُرثى لها حيث يقبع ما يقارب من 80% منهم تحت حد الفقر، ويتعرضون لكل السياسات العنصرية الممكنة لإجبارهم على مغادرة المدينة.
يتحالف مع سياسة اسرائيل العنصرية والتهجيرية جمعيات يهودية متطرفة من دول عديدة في العالم على رأسها الولايات المتحدة واوروبا. تقوم هذه الجمعيات بتشجيع الهجرة والاستيطان في القدس، وتعمل على تمويل المهاجرين اليهود هناك، وتعمل على اقامة الاستثمارات الاقتصادية والعقارية التي تساعد على توطين واسكان القادمين الجدد، وفي نفس الوقت تعمل هذه الجمعيات وغيرها من حملات تأييد اسرائيل والتعريف بها على ترتيب حملات وزيارات دينية وسياحية على مدار السنة. اي زائر للقدس وفي اي وقت من الاوقات يخرج بانطباع مذهل مفاده أن هذه المدينة، بما فيها القدس الشرقية حيث الاماكن المقدسة، هي مدينة يهودية الطابع والمذاق، وفيها يهود من كل اصقاع العالم وقاراته. مقابل هذا الانفتاح اليهودي العريض على القدس والفيضان الذي لا يهدأ والذي يأخذ اشكالاً عديدة، يتمترس العرب والمسلمون وراء خرافة الخوف من التطبيع ويمتنعون طوعا عن استثمار المسوغ الديني لزيارة القدس، فضلا عن الاستثمار فيها وتشغيل الفلسطينيين.
ما الذي يضير القدس ومقدساتها الاسلامية والمسيحية لو توافدت اليها مواكب زوار دائمين من العرب والمسلمين وضمن برنامج يستهدف تعزيز صمود المقدسيين والحفاظ على صورة المدينة الاسلامية المسيحية ومتعددة الاديان وليست المقصورة على الجانب اليهودي؟
سيقول كثيرون إن مثل هذه الدعوة تعني التطبيع المجاني مع اسرائيل، وكأن التطبيع مع اسرائيل ليس قائماً وعلى اعلى المستويات العلنية والسرية. وكأن التضحية بالقدس واهلها وهويتها تصبح مقبولة من اجل المحافظة على شعار عدم التطبيع والذي وإن كان مطلوبا بقوة في ظروف وحالات اخرى، فإنه في حالة القدس يتحول الى سياسة تخدم اسرائيل وتفيدها. ما الذي تريده اسرائيل اكثر من الامتناع الطوعي الاسلامي والعربي عن التوجه للقدس وزيارة الاماكن الدينية والسياحية فيها، والعمل على كسر الصورة والطابع اليهودي الذي يُفرض عليها؟ ما الذي تريده اسرائيل اكثر من الامتناع الطوعي للرأسمال العربي والاسلامي عن الاستثمار في القدس وتشغيل عشرات الالاف من الفلسطينيين والمساهمة في ابقائهم مزروعين في ارضهم وقدسهم؟ سيقول كثيرون هنا ان فتح الباب للزيارة والاسثتمار العربي والاسلامي في القدس سوف يفتح مجالات وقنوات تستغلها اسرائيل على الفور.
وهذا صحيح طبعاً، لكن نجاح اسرائيل او فشلها في ذلك مرهون بنا وبسياستنا وكيفية وآلية الزيارة والاستثمار، ويجب ان لا يمنع ذلك من وضع خطط وقائية تحبط ذلك مسبقا.
مع كل سنة تمر تتهود القدس اكثر واكثر وتضيق عليها حلقة التهويد لتصل إلى مربع الحرم الشريف نفسه. ومع كل سنة تمر تضعف شوكة مقاومة المخططات الصهيونية ويزداد الاستعداد النفسي لتقبل مخططات التهويد ... ذلك أن تهيئة وتحضير الاجواء لتلك المخططات عبر الاعتداءات المتواصلة صارت امراً يعرفه الجميع. ومع كل سنة تمر تقل حتى اعداد الفلسطينيين المتواجدين في القدس للدفاع عنها، جراء ضغوط الافقار والتهجير التي تنفذها اسرائيل بشكل متواصل.
ومع كل سنة تمر نقصف، نحن في الخارج، اسرائيل بشعارات عدم التطبيع وفتاوى تحريم زيارة القدس عدة مرات، لمنع كل من يفكر بالتضامن مع اهلها، ثم نأوي الى وسائد التلطي والكسل فرحين بشعاراتنا بقية السنوات.