ترامب ومنظمة الصحة العالمية وبينهما "كورونا"

د.عقل أبو قرع.jpg
حجم الخط

بقلم: عقل أبو قرع

قبل حوالي سبعة أشهر من الانتخابات الرئاسية ونصف التشريعية الأميركية، وفي ظل تصاعد الاتهامات للرئيس دونالد ترامب بالاستهتار وعدم اتخاذ الإجراءات الفاعلة الجدية والسريعة في بداية تفشي كورونا في الولايات المتحدة، يحاول ترامب إيجاد مخرج من أزمة من الممكن أن تكون طاحنة، بالأخص في عام الانتخابات، وبالتالي إيجاد مخرج له من ذلك، ومن الواضح أن ذلك يأتي من خلال إلقاء اللوم على طرف آخر له علاقة بأمور هذا الوباء، وحين لم يجد دولة معينة لتوجيه الاتهام واللوم لها، وجد منظمة الصحة العالمية، وقام بتجميد معونة أميركية على شكل تبرعات لهذه المنظمة تبلغ قيمتها حوالي 400 مليون دولار سنوياً.
وهذه المعونة ضرورية لمنظمة دولية مرموقة ومهنية ولها تاريخ في التعامل مع الأزمات، وتشكل الجزء الأكبر من ميزانية المنظمة. وفي ظل انتشار الوباء العالمي الحالي، ومع الخسائر الاقتصادية الحالية الضخمة، وتلك بعيدة المدى، وحتى مع التكاليف المباشرة للتعامل مع تبعات وباء "كورونا" من مستشفيات وأطباء وممرضين وأدوات طبية وأجهزة وغير ذلك، فإن هذه المعونة لا تساوي إلا الجزء القليل من هذه التكاليف، مع العلم أن تكلفة جهاز واحد للتنفس الاصطناعي في الوقت الحالي، قد وصلت الى حوالي 40 ألف دولار، أي أن معونة الـ 400 مليون دولار لمنظمة الصحة تساوي فقط ثمن عشرة آلاف جهاز للتنفس، مع العلم أن احتياجات ولاية نيويورك وحدها من أجهزة التنفس كانت حوالي 30 ألف جهاز، حسب ما أعلن عنه حاكم الولاية في بداية أزمة كورونا.
ورغم أن إعلان ترامب لاقى استنكاراً واسعاً، وبالأخص من أعضاء من الكونغرس وانتقادات مبطنة من هيئات صحية أميركية فيدرالية، مثل "مركز مراقبة الأمراض" الحكومي، وكذلك لاقى ردات فعل شاجبة من جهات دولية وبالأخص من الدول الأوروبية، إلا أن القرار يأتي منسجماً مع عقلية وفلسفة الرئيس ترامب التي تتوافق مع شعار "أميركا أولا" الذي رفعه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة التي فاز فيها، وهو ينبع من أحاسيس العجرفة والتغطرس والتباهي بالقوة، ويؤمن أن على أميركا أن تعمل منفردة أو من خلال إعطاء الأوامر والتوجيهات للتعاطي مع القضايا والأزمات، وهذا ما أثبته من خلال التعامل التجاري مع الصين وأوروبا ومع دول أميركا الجنوبية، وحتى من خلال التعامل وتقديم المساعدة لدول عربية، وكذلك من خلال طريقة التعامل مع القضية الفلسطينية.
وهذا ما تم كذلك من خلال التعامل مع منظمات دولية أخرى وبعيدا عن الإجماع الدولي، حيث جمدت الولايات المتحدة الأميركية كل معوناتها الى الوكالة الدولية لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وحديثاً انسحب الرئيس ترامب من اتفاق دولي للتعامل مع التغيرات المناخية والانحباس الحراري والتلوث البيئي، وغير ذلك من الانسحابات من اتفاقيات إقليمية مختلفة، بما ينسجم مع عقلية الرئيس الأميركي، ولحد ما مع فلسفة الحزب الجمهوري.
ومنظمة الصحة العالمية منظمة دولية تتبع الأمم المتحدة مقرها "جنيف"، وتضم في عضويتها معظم إن لم يكن جميع دول العالم الأعضاء في الأمم المتحدة، ومن ضمنها فلسطين، ويتم انتخاب أمينها العام بشكل دوري من خلال اجتماع وزراء صحة الدول الأعضاء، وفي منطقتنا يوجد لها مقر إقليمي في مدينة القاهرة، ورغم أن أكثر المستفيدين من خدماتها هم من الدول الفقيرة أو دول العالم الثالث، إلا أن الخدمات الاستشارية والسياسات والبرامج والبروتوكولات والخطوط العريضة والنشرات التي تنشرها أو تصدرها تشمل جميع الدول، وهي تضم خبرات فنية صحية وطبية وبحثية مرموقة، وبالأخص من الدول الاوروبية وأميركا وغيرهما.
وفي فلسطين، يوجد مقر المنظمة، في مدينة القدس، ويوجد لها مكتب في قطاع غزة، وتقوم بتقديم خدماتها من خلال التعامل المباشر مع وزارة الصحة الفلسطينية وبشكل غير مباشر من خلال التعاون مع منظمات المجتمع المدني الصحية والطبية في فلسطين. ومن اهم الخدمات التي تقدمها توفير الإرشادت والخطوط العريضة للتعامل مع الأمراض المعدية والمزمنة وغير السارية، وإجراء بعض الدراسات والأبحاث الخاصة بالوقاية والرعاية الصحية الأولية والتطعيم والتغذية وصحة الأم والطفل، وتوفير الأدوية والمعدات الطبية التي تحتاجها الجهات الفلسطينية، وتسهيل عملية دخول الأدوية والمعدات الى قطاع غزة، وإحضار الخبراء للمساعدة في التعامل مع أمراض محددة وإرساء سياسات إرشادية لها، وكذلك بث التوعية والوعي حول التعامل مع قضايا صحية ونفسية، تهم الأم والمرأة الحامل والأطفال وغير ذلك من الفئات، وغيرها من الخدمات التي تساعد المرضى بشكل مباشر، كما يتم الآن من خلال توفير دعم للتعامل مع وباء كورونا، أو من خلال العمل على تحسين القطاع الصحي على المدى البعيد.
ورغم أن تأثير تعليق المعونة الأميركية المباشر قد يكون آنياً وسريعاً، إلا أن الإدانة الدولية التي واجهها ترامب نتيجة القرار كانت واضحة، حتى أن بعض الدول ومنها الأوروبية قد تعهدت بسد النقص في ميزانية المنظمة، وبالأخص بعد إظهار مدير عام المنظمة وثائق تثبت تدخلها المبكر خلال شهري كانون الأول والثاني، كي تحذر كل دول العالم ومن ضمنها الولايات المتحدة من عواقب وسرعة انتشار هذا الوباء، وتدعو الى اتخاذ إجراءات جدية وسريعة للتعامل معه.
ومع تصاعد الإصابات والوفيات والخسائر الاقتصادية الفادحة بفعل "كورونا" وبالأخص في الولايات المتحدة، فإنه أصبح من الواضح أن محاولة ترامب إلقاء اللوم على جهة أخرى، وبالتالي محاولة التملص من تحمل مسؤولية التحرك مبكراً وسريعاً وجدياً لاحتواء الوباء، لن تجدي، وسوف تبقى هذه الاتهامات له بالتقصير والتراخي تلاحقه حتى شهر تشرين الثاني من هذا العام، حيث يدلي الناخب الأميركي بصوته وبالتالي يتخذ قراره في هذا الصدد.