بعد عشرين سنة من خروجنا من لبنان، تلقينا في نهاية الأسبوع الماضي تذكارا لميزان الردع المتبادل والهش الذي نشأ منذئذ بيننا وبين "حزب الله"، منظمة حرب العصابات التي كبرت لتصبح جيشا ذي قدرات دولة. تحت غطاء الوباء الذي يلقي بظلاله على الجميع، اختفت الرسالة الخطيرة التي كانت تنطوي عليها أحداث قطع السياج، ليل السبت. ما بدا كمحاولة إسرائيلية (حسب التقارير) لبث رسالة حازمة ورادعة لـ "حزب الله"، انتهى برد جريء من المنظمة، يذكرنا بأننا نحن ايضا مردوعون.
في المركبة التي تعرضت للاعتداء في العيد الثاني للفصح على طريق دمشق – بيروت كان اربعة نشطاء من "حزب الله" يعملون لتهريب العتاد المتطور من إيران عبر سورية الى لبنان. وحسب التقارير من لبنان، أطلقت طائرة صاروخا واحدا قرب المركبة، التي كانت لا تزال في الاراضي السورية، ما جعل الأربعة يتوقفون على جانب الطريق وينزلون. وبعد دقيقتين فقط، حين كانوا على مسافة آمنة من المركبة، ضربها الصاروخ الثاني ودمرها.
يمكن الافتراض بان الاعتبار بعدم المس بالنشطاء كان المعادلة التي خلقها "حزب الله" منذ آب الماضي: رد فتاك على الحدود الشمالية على كل مس باللبنانيين، حتى لو وقع هذا على الأراضي السورية. ولكن مشاهدة شريط الهجوم تثير جوانب مقلقة أخرى. معظم الناس الذين يسقط الى جانبهم صاروخ يفرون من المركبة بفزع. اما الاربعة فبدوا ينزلون من المركبة بارتياح، وليس بفزع، ما يعني أنهم لم يفاجؤوا حقا بهذه الاشارة. بعد بضع ثوان من ذلك بدا الاربعة يعودون الى المركبة، بلا ضغط، كي يخرجوا منها الحقائب التي تركوها خلفهم، وكأنهم قالوا: نحن نثق بمن اطلق الصاروخ الاول بانه لا يقصد حقا المس بنا.
كان هناك من رووا لانفسهم بعد الحدث بان اولئك الاربعة لن يعودوا بعد الان للعمل في التهريب، ولكن ما يتبين من الشريط هو العكس تماماً. هؤلاء الأربعة فهموا جيدا جدا لأن من يقوم بعملية "انقر الطريق" ليس معنيا بقتلهم، ومثلما قال توقو في فيلم "الخيّر، الشرير، والبشع": (If you want to shoot- shoot).
استغرق الأمر "حزب الله" 48 ساعة ليخرج الى حيز التنفيذ ردا – مرآة للعملية التي نسبت لإسرائيل. بعد الغروب في ليل السبت تقدمت ثلاثة طواقم للمنظمة في مسارات خفية نحو الحدود وفتحت ثلاث ثغرات في السياج: في منطقة المطلة، يفتح، وافيفيم. وباستثناء نقطة واحدة، لم تلاحظهم نقاط الرقابة التابعة للجيش الإسرائيلي، وانصرفوا مخلفين وراءهم اكياس نايلون واسلاكا كهربائية وبقايا آلة شفط للغبار. وصلت قوات الجيش الإسرائيلي بسرعة الى الثغرات، ولكن لم يكن هناك أحد.
لا ينبغي أن نكون متفاجئين من قدرة "حزب الله" على تحليل النقاط الميتة في رقابة الجيش الإسرائيلي والاقتراب من السياج دون الانكشاف. فرجاله هم في معظمهم من ابناء المكان، ممن يعرفون كل سبيل وكل قناة حول قراهم. ولكن الرسالة التي نقلها "حزب الله" كانت: "ان شئت، يمكنني أيضا ان اصل الى البلدات الإسرائيلية". ووصف الصحافي ابراهيم الامين المقرب من نصر الله العملية بانها "انقر أبواب البلدات".
"أجرينا مهمة استخبارية وعملياتية أمام منظومة الدفاع والرقابة للجيش الإسرائيلي"، كتب الامين. رغم وفرة الكاميرات والوسائل التي نصبها الجيش الإسرائيلي على حدود الشمال، لا تزال توجد على طول الحدود عشرات عديدة من النقاط المخفية، المناطق الميتة التي تسمح بالاقتراب من السياج دون الانكشاف. في جانب تكتيكي، مطالب الجيش الإسرائيلي الآن بأن يفحص من جديد انتشار الكاميرات والوسائل واصلاح ذلك. على المستوى الاستراتيجي، يتطلب هذا الحدث من الجيش الإسرائيلي اعادة احتساب سياسة العمل تجاه "حزب الله" ورجاله. من الصعب إدارة سياسة هجومية فاعلة دون أخذ مخاطر.
مساعي دقة
كان لبنان غارقا عميقا في أزمة اقتصادية حين ضربه "كورونا"، وبات ممكنا الحديث عنه بتعابير الدولة الفاشلة. ايران هي الاخرى، المرضوضة بالعقوبات وبالمرض، تلقت الآن ضربة قاضية اخرى مع انهيار سوق الطاقة. هذه الازمات لا تتجاوز "حزب الله"، الذي اضطر لان يحتمل تقليص الثلث في ميزانيته التي تبلغ اليوم نحو 650 مليون دولار في السنة. رغم ذلك، فان المنظمة لا تهجر تطلعها وجهدها للوصول الى قدرات دقة الصواريخ.
على مدى زمن ما أمل "حزب الله" في إنتاج الصواريخ الدقيقة على الأراضي السورية بمساعدة جنرال الظل للأسد، باسم حسن، رجل المهمات الصعبة. ولكن الهجمات المتكررة على المنشآت التي أقامها حسن في المجمع العسكري في المصايف أوضحت لـ "حزب الله" بان الأراضي السورية ليست مكاناً آمناً لبرامجهم. فقرر حسن نصر الله والقائد الجديد/القديم لفيلق لبنان في الحرس الثوري الإيراني، حسن مهداوي، نقل انتاج الصواريخ الى لبنان، الى جانب مساعي التهريب المتواصلة من سورية. وكان تطلعهما هو انتاج الصواريخ من الالف الى الياء على الاراضي اللبنانية. في آب من السنة الماضية هبطت حوامة مسلحة على خلاطة وقود صلبة كانت تقف في ساحة في بيروت. في بداية هذه السنة نشب حريق في منشأة اخرى مجاورة لمطار بيروت. هذه الأحداث لم تردع "حزب الله". ليس لهم نية لان يتنازلوا، وليس لإسرائيل قدرة على أن تتنازل في هذا الموضوع. فقدرة "حزب الله" على توجيه ضربة دقيقة لمنشآتنا الاستراتيجية ستخلق ميزان رعب لن تتمكن إسرائيل من التعايش معه. ويفهم الطرفان بان الصراع على مشروع الدقة قد يدفعهما الى المواجهة. بالنسبة لإسرائيل ستكون هذه حرباً أليمة جداً، ولكنها ستوقع على لبنان خراباً حقيقياً.
في هذه الأثناء ينشغل العديد من ضباط البحوث في شعبة الاستخبارات العسكرية في تحليل مراكز نقل عدوى المرض، ولكن العمليات الخاصة تلاحق الفحوصات، ورئيس "الموساد" نقل مقره الى مستشفى شيبا ويقاتل الفيروس. عندما نصحو من هلع الوباء – على هؤلاء الأشخاص ان يعودوا للانشغال بما يعتبر التهديد الأهم والأكثر حقيقية على إسرائيل. قبل عشرين سنة أملنا بان نبقي لبنان وراءنا ولكنه لا يزال على أعتابنا.
عن "معاريف"
حزب الله.. هل هو حزب الشيطان ؟
06 ديسمبر 2024