ابن رشد، نظرة مختلفة

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

لم يخلُ التاريخ الإسلامي يوماً من الجدال في أغلب القضايا، سواء في أمور العقيدة، أو الفقه، أو السياسة، أو فيما يتعلق بتفاصيل الحياة اليومية.. وبسبب هذه الخلافات نشأ العديد من الفرق والتيارات الفكرية، منذ أيام الخلافة الراشدة.. وفي نفس السياق، لم تنجُ أي شخصية تاريخية من الجدل حولها، سواء كان فقيهاً، أو عالماً، أو فيلسوفاً، أو قائداً عسكرياً.. حيث تنقسم الآراء حوله بين مؤيد ومتبع، وبين رافض ومكفّر.
هذه الخلافات لا تزال مستمرة ومستعرة في عصرنا الراهن، بين الدعاة والفقهاء، وحتى في الأوساط الخارجة عن المؤسسة الدينية التقليدية، وصولاً إلى مختلف الشرائح الاجتماعية.. في المسائل الجدلية تكاد تتركز الخلافات في مسألة أيهما أولى بالإتباع النقل أم العقل؟ أما عن الشخصيات فتتمحور حول اعتبار الشخص تقدمياً تنويرياً، أم رجعياً ظلامياً.
شخصية «ابن رشد» تجمع بين الجدلين، فهو من ناحيته، جمع بين شخصية القاضي الملتزم بالنقل والنصوص، وبين شخصية المفكر المنطلق دون قيود.. فمن هو ابن رشد؟ وهل كان فيلسوفاً تنويرياً، أم قاضياً سلفياً؟
ولد الوليد بن رشد في قرطبة 1126، وتوفي في مراكش 1198، كان طبيباً وفلكياً وفقيهاً، وشغل منصب قاضي القضاة في عهد الموحدين، اشتغل في شرح فلسفة أرسطو بطلب من الخليفة أبو يعقوب، وبتوصية من أستاذه الفيلسوف ابن طفيل.
تُرجمت كتبه في عصره إلى اللاتينية والعبرية، حاربته الكنيسة حينها، واعتبرته مؤسس الزندقة في أوروبا، لكن كتبه صارت تُدرس في أهم الجامعات الأوروبية في عصر النهضة.. إذ تنبه المستشرقون لأهمية فكره، واعتبروه حالة تنويرية متقدمة. وفي هذا الإطار، تساءل بعض العلمانيين عن أسباب اختيار ابن رشد تحديداً رمزاً للفكر التنويري التقدمي، على اعتبار أن أفكاره في كتابيه: «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، و»فصل المقال» (وغيرها من كتبه الفقهية)، لا تنسجم مع المعايير الأوروبية العلمانية، ما يوحي أن المستشرقين الأوروبيين لم يطلعوا عليها، لذا يمكن القول: إنهم عرفوه فيلسوفاً ولم يعرفوه فقيهاً، على عكس المسلمين؛ قبلوه فقيهاً، ورفضوه فيلسوفاً.. حيث أحرق الخليفة الأندلسي المنصور كتبه، واتهمه فقهاء عصره بالزندقة، والتشكيك بثوابت الإسلام.
آمن ابن رشد بإمكانية الجمع بين الفلسفة والدين دون التضحية بشيء من أصول كلٍّ منهما، وأنه لا تصادم بينهما، حيث قال: «الحكمة الأخت الرضيعة للشريعة»، وآمن بتعدد الطرق التي تفضي إلى الحقيقة، وهذا أساس حرية الفكر لديه؛ وذلك بقوله: إن الأديان والفلسفات والعلوم دروبٌ مختلفة تفضي إلى الحقيقة الواحدة، وأنه يمكن للإنسان الوصول للمعرفة والحقيقة دون وحي، أي دون وسطاء (الفقهاء).. لكنه اعتقد أن العقل يظل عاجزاً عن إدراك بعض المسائل الدينية (الغيبية خاصة)، وبالتالي يجب قبول الدين بما فيه من قضايا ميتافيزيقية.. لكنه في الوقت نفسه كان منفتحاً على الشك، ليس فقط بالقضايا الإشكالية في الدين، ولكن الشك بنفسه أيضاً وقدرته على إدراك كل شيء.
تكمن أهميةُ ابن رشد اليوم بدعوته إلى تحرر الفكر، وإلى تحرير المجتمع والإنسان من مختلف القيود الاجتماعية والسياسية والدينية، لكن «تحرر» فكر ابن رشد، هو تحرره من أثر التقليد الديني، ومن العقلية النصوصية، ومحاولته فلسفة الدين، وقد قاد تمسكه بالحكمة والشريعة في آنٍ معاً إلى الظن بأنه اعتقد بوجود حقيقتين: حقيقة الدين وحقيقة الفلسفة، وهذا قول، وفي قول لآخر أنه لم يعتقد إلا بوجود الحقيقة الواحدة التي يجتهد في اكتشافها العقلُ البشري المتعاطي للعلمَ، ويكشف عنها الوحيُ الإلهي للأنبياء فيضمِّنونها كتبَهم.
وانطلاقًا من وحدة الحقيقة، دعا ابن رشد لدراسة العلوم، مهما كان مصدرها، والاستفادة من إنجازات الفكر، بصرف النظر عن مصدره، حتى لو كان وثنيّاً، أو من أي دين آخر. فالمعيار الوحيد عنده هو صحة المعرفة. وهذا انفتاحٌ حضاري نحن الآن في أمسّ الحاجة إليه اليوم.
وفي الجدل الدائر حول شخصية ابن رشد، سنجد وجهة نظر مختلفة، مفادها أن فلسفته لم تكن حرة دون قيود، بل كانت فلسفة هدفها النظر في الموجودات وفي علاقاتها بالخالق، فالفلاسفة عنده ليسوا أكثر من ورثة للأنبياء، والفلسفة محصورة في البعد الديني، لا ممارسة حرة للعقل، بل ممارسة مقننة بالشرع لا تتجاوز أفقه، هدفها الإثبات لا الاختلاف، والتبرير لا التفكيك، تستمد شرعيتها من الشرع لا من العقل، وتنادي «بقتل الزنادقة»، أي بقتل الخارجين عن الحقيقة الشرعية. (رشيد بوطيب).
لكنه آمن بمبدأ كونية الفلسفة، وبأنه لا قومية لها، أن الفلاسفة عبر التاريخ كانوا أكبر المفككين لهوياتهم القومية وثقافاتهم، بما في ذلك أستاذه سقراط.
وفي سياق متصل، يقول آخرون: إن كتبه الفقهية لا تخرج عن المدونة الفقهية التقليدية السلفية، والتي كان يطبقها حرفياً أثناء ممارسته القضاء، وحول رأيه في الجهاد، يرون أنه لم ينكر نهج الأولين في مسائل الغنائم والسبايا والفتوحات، وغيرها من الممارسات العنيفة التي تطبقها الحركات الجهادية اليوم.
في كتابه «جوامع سياسة أفلاطون» ناصر ابن رشد حقوق المرأة، ودعا إلى مساواتها بالرجل، وفي هذا سبق عصره، وخالف أساتذته اليونانيين والمسلمين معاً، إذ أنكر الفرقَ الطبيعي بين الرجل والمرأة، وساوى بينهما في الكفاءات الذهنية والعملية، والفرق الوحيد الذي رآه هو في قدرة الرجل على تحمل الأعباء الجسدية أكثر من المرأة، في حين أن المرأة أكثر مهارة في أعمال أخرى، كالفنّ والموسيقى وغيرهما، ورأى أن وصول المرأة إلى رئاسة الدولة هو من الأمور الطبيعية الممكنة. (عقيل عيدان).
ربما نظلم ابن رشد إن حاكمناه بمعايير عصرنا، رغم أن مفكرين وفلاسفة سبقوه أو عاصروه كانوا أكثر وضوحاً وأكثر انفتاحاً على النقد، أو بمعنى آخر كانوا متساوقين بدرجة أكبر مع المعايير العلمانية الحداثية في أطروحاتهم، أي في مدى التنوير، مثل الرازي، وابن الراوندي، وابن سينا، والفارابي وجابر بن حيان، وغيرهم.. لكن «التنوير» كمصطلح يظل مطاطاً ونسبياً، ولا يشترط أن تكون المعايير الغربية والعلمانية هي المعايير الصحيحة الوحيدة.
ومشكلتنا التاريخية، أننا قتلنا وكفرنا كل من اختلف مع الفكر السائد، وأحرقنا كتبهم.. وبذلك خسرنا فرصاً كثيرة، كان يمكن لها أن تجعل من حاضرنا أفضل، وربما كانت ستغير مجرى التاريخ كلياً.