القصة الكاملة للسلام الضائع بين إسرائيل وسورية (2-3)

حجم الخط

بقلم: يغئال كيبنيس



ولكن المفارقة أن رئيس الوزراء الأول، الذي بدأ محادثات السلام مع السوريين، كان اسحق شامير، الذي عارض قطعياً اتفاق سلام بين إسرائيل ومصر، ولم يعتزم مطلقاً التفاوض مع السوريين. غير ان الادارة الجمهورية للرئيس جورج بوش ووزير الخارجية، جيمس بيكر، فرضا عليه مؤتمر مدريد. وزير الخارجية في حكومة شامير، دافيد ليفي، رفض مرافقته، وبدلاً عنه انضم الى المحادثات نائبه، بنيامين نتنياهو. وكاستفزاز للمؤتمر صعد الوزيران ارئيل شارون ورفائيل ايتان الى الجولان لعقد احتفال أُعلن فيه عن اقامة مستوطنة جديدة. المفارقة هي أن الموقع ذاته استخدمه نتنياهو للإعلان عشية الانتخابات عن إقامة "هضبة ترامب"، كبادرة طيبة للرئيس الأميركي، الذي أراد مجاملته.
في العام 1992 حل رابين محل شامير، وكان اول رئيس وزراء إسرائيلي منذ العام 1949 يواجه واقعاً يسمح بمفاوضات على اتفاق سلام بين إسرائيل وسورية. وإخلاصاً لنهجه من عهد ولايته الأولى، في ألا تجرى المفاوضات مع سورية إلا في نهاية المسيرة، تعهد رابين بأن يتوصل في غضون وقت قصير الى اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين. ولكن بتأثير مواقف الرئيسين بوش وكلينتون، ورئيس الأركان باراك، ورئيس شعبة الاستخبارات في حينه، اللواء اوري ساغي، في أن الأسد توصل الى قرار بالسعي الى اتفاق سلام مع إسرائيل غيّر رابين رأيه، وبدأ يعمل في القناة السورية أيضا. من هنا فصاعداً أصبح التنقل بين القناة الفلسطينية، السورية، والاردنية مميزاً لسلوك رابين: في كل مرة توقف التقدم في إحداها، توجه الى الأخرى.
خلّف رابين وراءه ثلاثة حجارة في الطريق. الأول كان تصريحياً: "عمق الانسحاب كعمق السلام"، صرح في آذار 1993، فأجيب بأن السوريين مستعدون لسلام كامل مقابل انسحاب كامل. حجر الطريق الثاني "الوديعة" التي شكلت لاحقاً مرسى للمسيرة السياسية في القناة السورية: =تعهد رابين، للأميركيين فقط، بانه في اطار اتفاق سلام بين سورية وإسرائيل، تنفذ فيه أربعة شروط عدّها، وكذا تبعاً لاتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين، تنسحب إسرائيل انسحاباً كاملاً من هضبة الجولان. وكانت الشروط الأربعة هي: اقامة علاقات كاملة، بما فيها إقامة سفارات وحدود مفتوحة؛ يُنفّذ الاتفاق على ثلاث مراحل، على مدى أربع – خمس سنوات، ويتم اخلاء المستوطنات في المرحلة الأخيرة؛ تستجاب المطالب الأمنية لإسرائيل، بما في ذلك تواجد قوة أميركية في محطات انذار مبكر في الجولان، وضمان الاحتياجات المائية لإسرائيل. ولكن بعد يوم من تلقي "الوديعة" من رابين، سافر كريستوفر إلى دمشق، وبخلاف تعهده، سلّمها للأسد.
حجر الطريق الثالث، الذي وضع في وثيقة "أهداف ومبادئ لاتفاق الأمن"، هو الذي أنهى عملياً المفاوضات في عهد رابين. ففي نهاية كانون الأول 1994، التقى سراً في واشنطن سفيرا إسرائيل وسورية في الولايات المتحدة، ايتمار رابينوبيتش، ووليد المعلم، ورئيسا أركان الدولتين، ايهود باراك، وحكمت الشهابي. الإسرائيليون، الذين اعتادوا على أن يروا في الترتيبات الأمنية مصلحة إسرائيلية، فوجئوا؛ إذ تبينوا كم هي مهمة الترتيبات الأمنية لسورية أيضا. فالصورة الشيطانية لكل طرف في نظر الآخر كانت متبادلة ومثلها الخوف أيضاً. وأكدت الاستيضاحات اثناء المحادثات فوارق المواقف، وأدت الى زيادة الشبهات والى تجميد محادثات الخبراء العسكريين. في آذار 1995 استأنف كريستوفر وروس زخم المفاوضات، وبلورا مع رابينوبيتش والمعلم مسودة غير موقعة لـ "أهداف ومبادئ لاتفاق الأمن". وأدى التوافق الى استئناف محادثات الخبراء العسكريين. على رأس الوفد الإسرائيلي كان، هذه المرة، من حل محل باراك في رئاسة الأركان، الفريق أمنون ليبكن- شاحاك. وكان الأساس بان الأسد متفائل بنجاح الخطوة. في اللقاءات التي جرت في نهاية حزيران 1995 في القاعدة العسكرية "بورت ماكنير" في واشنطن اتفق على 15 "نقطة توافق". في إسرائيل قدروا بأن جولة محادثات اخرى ستواصل الأولى، ولكن في 29 حزيران، حين كانت المحادثات لا تزال في ذروتها، نشر رئيس المعارضة نتنياهو وثيقة داخلية في الجيش الإسرائيلي سربت له وحصلت لاحقاً على لقب "وثيقة شتاوبر". وعرضها نتنياهو بشكل يتناسب واحتياجاته، كانتقاد من جهاز الأمن على التفاهمات المتبلورة. أثار التسريب شكوك السوريين، ووجد فريق الوسطاء صعوبة في التصدي لذلك. فقرر الأسد وقف اللقاءات. عملياً، في نهاية حزيران 1995، تجمدت مؤقتاً المسيرة السياسية بين إسرائيل وسورية.
وكما أسلفنا، فقد جرت المسيرة في القناة الإسرائيلية – السورية بشكل متقطع بينما كان رابين يناور بينها وبين قناتي المفاوضات الأخريين. تلك التي بين إسرائيل والأردن انتهت باتفاق سلام مع الأردن، وبخلافه فان المفاوضات مع الفلسطينيين أثارت لدى الجمهور الإسرائيلي نشاطات احتجاجية ضد رابين، وتحولت الى مظاهر تهجم غير مسبوقة. وأضاف الى ذلك المعارضة الشديدة للانسحاب من الجولان، وتصدرت الصراعات السياسية في معسكر رابين. ومع نهاية تشرين الأول فقط، حين بدأت أصوات مؤيدي المسيرة السياسية تسمع في الرأي العام أيضا، وافق رابين على التعاون مع جهود روس لإعادة المحادثات بين سورية وإسرائيل الى مسارها. في 31 تشرين الاول اتفق على مواصلة المسيرة بعد أن يتلقى رابين تفويضا بذلك في الانتخابات التي كانت ستجرى في 1996، غير أن رابين قُتل، وتغيّر الواقع السياسي في الشرق الأوسط.
بعد مقتل رابين واصل بيرسس التزامه بـ "وديعة رابين". بل اقترح ان يسافر مع الرئيس كلينتون الى دمشق، أو أن يعقدا لقاء ثلاثيا مع الأسد في الرياض للوصول الى اتفاق سريع. وحسب اقتراح الأميركيين دعيت وفود ضيقة الى واي بلانتيشن لثلاث جولات محادثات، وكان هناك إحساس بالتقدم السريع. ولعل هذا هو السبب الذي أثار ايران، وبعثها للعمل ضد المسيرة بسلسلة عمليات "انتحارية" في إسرائيل قام بها رجال "حماس". ردت إسرائيل بتصفية يحيى عياش وتصاعدت عمليات "الارهاب". في شباط، في ذروة جولات المحادثات في واي بلانتيشن، أعلن بيريس عن تقديم موعد الانتخابات في إسرائيل الى أيار. واصلت ايران العمل بتصعيد نشاطات "حزب الله" من جنوب لبنان ضد إسرائيل. وردا على ذلك خرجت إسرائيل في بداية نيسان الى حملة عناقيد الغضب. في هذا الواقع، لم تكن المسيرة السياسية وحدها هي التي انهارت، بل انتخاب بيريس أيضاً كان موضع شك، وأدى انتصار نتنياهو على بيريس الى إنهاء المحادثات بين إسرائيل وسورية. ولكن بخلاف كل التوقعات فان من استأنفها كان بالذات نتنياهو.

انتهت مساعي جس النبض
في الفترة التي سبقت انتخابه واظب نتنياهو على تأكيد التزامه بإبقاء الجولان في يد إسرائيل، بل انه في يوم الانتخابات وصل الى الجولان في مروحية، وكرر هذا التصريح أمام سكانه وأمام الإعلام. وفي الخطوط الأساس لحكومته ورد أن "الحفاظ على سيادة إسرائيل في الجولان سيكون أساساً لكل تسوية مع سورية". ولهذا فان الرأي العام وجمهور ناخبيه بخاصة لم يتوقعوا منه خطوات سياسية في القناة السورية – الإسرائيلية. رغم ذلك عمل نتنياهو سرا، دون مشاركة الأميركيين او علمهم، على اتفاق بين إسرائيل وسورية.
الأسد، الذي لم يكثر من السفر الى الدول الغربية، وصل في تموز 1998 الى باريس، حيث تحدث عن الحاجة لمواصلة المسيرة السياسية بين إسرائيل وسورية من النقطة التي توقفت عندها في الماضي، وحذر من أن نتنياهو قد يشعل الشرق الأوسط اذا لم تستأنف المسيرة. عشية زيارته وصل الى باريس أيضا عوزي أراد، مستشار نتنياهو السياسي، الذي كلفه بالمفاوضات مع سورية. وكانت الرسالة الإسرائيلية التي نقلت الى السوريين هي أن نتنياهو مستعد لأن يستأنف المفاوضات، ويفهم بان إعادة الأرض توجد في مكان مهم في سلم الأولويات السوري. وفي تلك الأيام تماما أدار نتنياهو وباراك سلسلة من عشرة لقاءات بحثا فيها إمكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتوصلا الى اتفاقات مفصلة عن إقامتها وعن مكانة باراك كقائم بأعمال رئيس الوزراء. لم يكن شك في نيتهما لقيادة خطوة لاتفاق سلام. غير أنه في نهاية تموز أقرت الكنيست مشروعي قانون لحلها، وبعد ذلك كشف بن كسبيت في "معاريف" أمر اللقاءات. "مساعي جس النبض للوحدة انتهت. نحن نعمل على تقديم موعد الانتخابات"، أعلن باراك.
في آب وايلول 1998 أدار نتنياهو والأسد مفاوضات. كان رون لاودر هو الوسيط، واستعان بالصحافي جورج نادر، ذي الأصل اللبناني الذي عمل مترجما. أما المضامين فقادها نتنياهو مع أراد ودوري غولد، وجرت اللقاءات مع لاودر في منزل رئيس الوزراء. ولدت اللقاءات وثيقتين: في الأولى، في 29 آب 1998، عشرة بنود لاقتراح نتنياهو على الأسد مبادئ اتفاق السلام، وفيها تكون الحدود خط الحدود الدولية (1923). بعد يومين من ذلك قال السوريون للاودر بان الوثيقة غير مقبولة بالنسبة لهم. في أعقاب ذلك أُعدت وثيقة أخرى تحمل تاريخ 12 ايلول 1998 وعنوانها مشابه لسابقتها: "معاهدة سلام بين إسرائيل وسورية". هذه المرة كانت فيها ثمانية بنود، وهذه المرة اقترح نتنياهو أن تنسحب إسرائيل من الاراضي السورية التي احتلت الى حدود متفق عليها تقوم على اساس خط الرابع من حزيران 1967. كما اقترح نتنياهو أن يتم الانسحاب على مدى 18 شهرا وثلاث مراحل. في إسرائيل اعدت خريطة تتطابق والوثيقة الاولى، ولكنها لم تنقل الى الأسد. أما خريطة تعبر عن الوثيقة الثانية فلم تعد. توجه نتنياهو لمواصلة تنفيذ اتفاق اوسلو، وعيّن شارون وزيرا للخارجية في حكومته كي يسنده في خطواته السياسية مع الفلسطينيين. ولكن قبل أن يجلسا في مزرعة واي للمحادثات مع عرفات وكلينتون، حاول نتنياهو التقدم في اتفاق مع سورية. طلب من لاودر ان يعمل من خلال المعلم، السفير السوري في واشنطن، كي يستقبله الأسد في دمشق، وهناك ينقل له بشكل شخصي خط الانسحاب الذي يقوم على أساس "وثيقة لاودر". اما الأسد، فكما أسلفنا، اشترط ذلك بتلقي الخريطة قبل مجيء نتنياهو، فشطبت القناة السورية عن جدول الأعمال.
في تشرين الثاني 1998، جلست في غرفة عوزي اراد في مكتب رئيس الوزراء، أمام غرفة نتنياهو. وصلت الى هناك بناء على طلبه. تحدثنا عن جوانب مختلفة للاتفاق بين إسرائيل وسورية، دون أن اعرف شيئا عن المفاوضات التي أدارها نتنياهو، وأن اراد كان شريكاً لها. قال لي أراد انه لا يزال ممكناً الوصول الى اتفاق. لم اصبر وسألت على الفور عن معنى الانسحاب: "بيتي هو البيت الشرقي في معاليه جملا في شمال شرق بحيرة طبريا. فهل يمكنني أن آمل بمواصلة العيش هناك؟". "لا احتمال، يدور الحديث عن اعادة كل شيء"، أجاب أراد وأضاف بان باراك سيذكر الى الأبد كمن منع اتفاق سلام تاريخياً بين إسرائيل وسورية. فتساءلت : "ما شأن باراك هنا؟" فأجاب أراد بانه لو انضم باراك لنتنياهو في حكومة وحدة لكان ممكناً الوصول بسرعة الى اتفاق سلام، ولكن نتنياهو وحده لن يسير في هذا الاتجاه. في هذه المرحلة كان الوضع السياسي لنتنياهو مهزوزاً. الاتفاق على انسحاب آخر، الذي وقعه مع عرفات في الولايات المتحدة، تسبب له بفقدان تأييد اليمين في إسرائيل. واستعداده للانسحاب من الجولان، الذي كان سربه شارون قبل يوم من ذلك لرجال حزب "الطريق الثالث"، ادى به ليخسر تأييدهم. أما باراك، الذي شعر بامكانية تقديم موعد الانتخابات، فقد رفض اعطاء نتنياهو حبل نجاة سياسياً.
في ايار 1999 قبل أن يبدأ باراك في تولي منصبه، جاء لاودر الى بيته في كوخاف يئير، التقاه سراً عدة مرات، واطلعه على خطوات نتنياهو في القناة السورية. غير أن لاودر ضلل باراك، ولم يكن دقيقاً في التفاصيل، حين قال إن الأسد وافق على أن يقوم الانسحاب على أساس الحدود الدولية. فهل يحتمل أن يكون لاودر جاء الى باراك بناء على موقفه الخاص كي يتحدث عن مهمة سياسية سرية قام بها بتكليف من نتنياهو؟ من المعقول الافتراض أن تبلغ باراك كان منسقاً مع نتنياهو وكذا أيضا المعلومات المغلوطة التي قدمها له.
قبل أن يشكل حكومته أدار باراك سراً محادثات مع شارون على انضمام "الليكود" الى حكومته وتعيين شارون وزيرا للخارجية، باتفاق على ان تجري مفاوضات للسلام مع سورية. أيد شارون الخطوة، ولكنه اصطدم بمعارضة من جانب رفاقه في "الليكود". إضافة الى ذلك تلقى باراك رسائل من الأسد وفيها طلب استئناف المسيرة من المكان الذي توقفت عنه. ودفع ضيق الجدول الزمني، الذي وضعه باراك للخروج من لبنان، صيف 2000، والوضع الصحي للأسد، ليعمل بسرعة.

عن "معاريف"