الحلبة السياسية الإسرائيلية وثمن شطحات الخيال

حجم الخط

بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس

 

في لحظة من لحظات الصفاء الروحي التى يستشعرها المرء عند إدراكه يقينياً بدنو أجله، يجد نفسه أسيراً لشطحات خيال تراوده، تدفعه إلى مراجعة قرارات ومواقف اتخذها في سنوات عمره الذي أوشك على النهاية، ويمني نفسه، لو كانت لديه أي فرص أخرى من الحياة لغير وبَّدل من قراراته ومواقفه التي سبق أن اتخذها، بدوافع حياتية متدنية الأخلاقية، بأخرى أكثر شفافية ونورانية يحكمها الإدراك والوعي بالخير وبالقيم العليا، لعله يُحسِّن من فرصه في ما هو آت بعد الموت.

شطحات خيال تجعل المرء أقرب من أن يكون ملائكياً؛ لكنها، وللأسف، ليست إلا مجرد شطحات خيال لا طائل منها؛ لأن ما حدث قد حدث، وأن الحساب على كل فعل هو الحقيقة المؤكدة التي لن يصلح من مرارتها لا الندم ولا أمنيات بالمراجعة. من يعيد قراءة ما كتبه الصحفي الإسرائيلي، جدعون ليفي، في صحيفة هآرتس الإسرائيلية بُعيد ظهور نتائج جولة الانتخابات الإسرائيلية الثالثة التي أجريت في آذار الماضى، في مقدوره أن يخرج بهذه المرارة والحسرة التي باتت تسيطر على مشاعر القليل من بعض عقلاء كيان الاحتلال الإسرائيلى، بعد الغدر الذي أوقعه بيني جانتس بقادة القائمة العربية المشتركة الذين تحاور معهم على أن يقبلوا بالتوصية له كمرشح لرئاسة الحكومة عند رئيس الدولة ليشكل حكومة أقلية عنوانها وهدفها الرئيسي إسقاط حكم بنيامين نتنياهو وتهيئته للمحاكمة ودخول السجن، إلى جانب وعود سياسية وحياتية أخرى قدمها جانتس لقادة القائمة العربية المشتركة، الذين قاموا بواجبهم وأوصوا به عند رئيس الجمهورية، وإذا بهم يصدموا بأن مرشحهم لرئاسة الحكومة بيني جانتس يختار أن يتحالف مع عدوهم وعدوه بنيامين نتنياهو.

القليل من بعض عقلاء إسرائيل، وبسبب الذعر الذي أحدثه الانتشار المخيف لفيروس «كورونا» وتساقط الضحايا بالمئات داخل الكيان، ومنهم جدعون ليفي أدركوا أن الموت الذي لا يفرق بين يهودي وعربي داخل الكيان بات يفرض حقيقة مؤكدة يجب الوعي بها، حسب قول جدعون ليفي في مقالته المشار إليها، أنه «لا يوجد معسكران في إسرائيل فيما يتعلق بكورونا»، وانطلاقاً من الوعي بهذه الحقيقة؛ يجب الإسراع بتشكيل «حكومة طوارئ» تضم القائمة العربية المشتركة، ليس بطلب من جانتس «ولكن بمبادرة من بنيامين نتنياهو».

شطحات الخيال هذه لم يتحملها عقل جدعون ليفي، وإذا به يعود فى نهاية مقاله ليتساءل بعد استعراض طويل لشطحات الخيال حول التآزر والتوحد داخل الكيان؛ لمواجهة خطر «كورونا»، عن: هل هذا حلم؟ ويجيب: هذا كما يبدو.

إجابة جدعون ليفى عن «تهشم الحلم» هي ما يشغل القائمة العربية المشتركة الآن، بعد أن غدر بهم، بينى جانتس.

من الصعب تصور أن «الندم» وحده هو الذي يشغل عقول زعماء القائمة العربية المشتركة الآن، فما حدث أصعب كثيراً من كونه يعد «غدراً شخصياً»؛ بل هو غدر ب«طموحات شعب»بأكمله؛ لأن جانتس، ومنذ اللحظة الأولى لظهور نتائج الانتخابات الأخيرة والتي لم يحقق فيها الأغلبية التي تمكنه من تشكيل حكومة، كان يسعى، وفقاً لتأكيدات «يوسي بيلين» في صحيفة «إسرائيل اليوم» إلى إقامة «حكومة وحدة وطنية» وليس «حكومة أقلية» قائمة على دعم من القائمة العربية المشتركة، وأن توجهه للتحالف مع القائمة المشتركة كان بدافع واحد هو استفزاز نتنياهو وإجباره على القبول بتشكيل حكومة وحدة أو حتى «حكومة طوارئ» وهذا ما حدث.

بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن رد فعل أيمن عوده رئيس القائمة المشتركة على قرار تشكيل «حكومة جانتس- نتنياهو» مفعم بالمغالطات أو أنه امتداد ل«شطحات الخيال» تلك، فوصفه لهذا القرار بأنه «صفعة» على وجه من خرجوا إلى صناديق الاقتراع 3 مرات لإطاحة بنيامين نتنياهو تجاوز للحقيقة؛ لأنهم قبلوا بالتحالف مع جانتس من دون أن يحصلوا منه على أي وعد له علاقة محورية بحقوق الشعب الفلسطيني، والآن يجدر السؤال عن: ماذا ستفعل القائمة المشتركة بعد إعلان وزارة الخارجية الأمريكية الاثنين الفائت (2020/‏4/‏27) أن الولايات المتحدة على استعداد للاعتراف بالإجراءات «الإسرائيلية» وتطبيق القانون «الإسرائيلى» على غور الأردن ومناطق من الضفة الغربية. وإعلان الحكومة «الإسرائيلية» بأنها ستشرع فى تموز المقبل بإتخاذ تلك الإجراءات؟

سؤال من شأنه أن يبعد القائمة المشتركة تماماً عن كل شطحات الخيال، ويعيدها إلى التفكير بالعقل مجدداً للبحث فيما يجب فعله من الآن للتصدي للمشروع المشترك الذي يجمع جانتس مع نتنياهو والذي لن يدفع ثمنه غير الشعب الفلسطيني.

بالاتفاق مع "الخليج"