عن هذه المسلسلات

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

أعتقد أن الهجمة على قناة MBC مبالغ فيها، وانتقاد مسلسل «أم هارون» متسرع، وكذلك انتقاد الفنان «ناصر القصبي».
لا يهمني مقاطعة القناة المذكورة، أو انتقادها وشيطنتها، أو الدفاع عنها.. فهي ليست قناة بريئة على أي حال، لكن من الخطأ قراءة المشهد جزئياً، أي دون وضعه في سياق الصراعات السياسية ومناكفات دول الخليج فيما بينها، وبالتالي الهجمة نفسها ليست بريئة تماماً أيضاً.
من ناحية ثانية، انتقاد أي عمل فني أو أدبي لا يجوز قبل قراءته أو مشاهدته كاملاً.. فما زلنا في الحلقات الأولى، فربما يتغير المشهد، وتتغير الرسالة.. فلنصبر قليلاً، ثم لننتقد كما نشاء.
من مشاهدتي للحلقات الأولى لمسلسل «أم هارون»، لم أجد فيه تطبيعاً «حتى الآن»، إلا إذا كنا لا نميز بين اليهود والصهيونية، رغم وضوح معايير التطبيع كما أعلنتها حركة المقاطعة BDS. واليهود العرب كانوا في أوطانهم العربية منذ مئات السنين، ولم يكن ضمن مخططات الصهيونية (الأشكنازية) في بداياتها جلب اليهود العرب والشرقيين (السفارديم) إلى فلسطين، لأسباب عنصرية، ولكن بعد قيام الكيان، اتضح للمنظمة الصهيونية أن عدد اليهود الغربيين المهاجرين إلى فلسطين لا يكفي لبناء دولة، فبدأت بالتخطيط لجلب اليهود من العراق والمغرب ومصر وغيرها، أحياناً بالتنسيق مع رؤساء وملوك تلك الدول، وأحياناً أخرى باختلاق حوادث عنف وحملات كراهية لدفع اليهود لمغادرة بلدانهم، والهجرة إلى فلسطين.
المسلسل يتحدث «حتى الآن» عن العلاقات الطبيعية التي كانت تربط بين اليهود والمسلمين وبقية مكونات المجتمعات العربية في تلك الآونة، أي قبل قيام إسرائيل.. ولا أعرف كيف سيتغير المشهد بعد ذلك، وكيف سيطرح المسلسل تطورات الأحداث.. أما انتقاد تلك العلاقات الطبيعية، فيعني أننا نعتقد فعلاً بأن اليهود ليسوا بشراً عاديين، فيهم الخيّر والشرير، كما هو حال أي مجموعة إنسانية.
مسألة أخرى، عند نقد العمل الأدبي أو الفني نستخدم الأدوات والمعايير الأدبية والفنية، قبل الاعتبارات السياسية والأحكام المسبقة (إذا جاز استخدامها أصلاً)، فمثلاً في الحوار بين «ناصر القصبي» والفنان «راشد الشمراني»، يقول «القصبي» بما معناه أن الفلسطينيين شعب طبيعي، مثل بقية الشعوب، فيهم الخير والشرير، والناجح والفاشل، والوطني والجاسوس.. وأعتقد أن هذا كلام سليم، وطبيعي، ولا يسيء للفلسطينيين، بل يضعهم في المكانة الطبيعية كسائر البشر، إلا إذا كنا نعتقد أننا شعب فوق الطبيعي، ولا يجوز لأحد انتقادنا.
وتابع «القصبي» من خلال المشهد: إنهم يجب أن يقفوا مع الحق بغض النظر، لأن هذه مسألة مبدأ وضمير، وإن إسرائيل هي التي تغذي الأحقاد والنزاعات بين الشعوب العربية.
كما أن «الشمراني» الذي قال كلاماً مسيئاً للفلسطينيين، ودعا للتطبيع، فعل ذلك من داخل دوره الفني، أي أنه كان يطرح وجهة نظر تتبناها فئات معينة من المجتمع السعودي، حتى لو كانت قليلة جداً، ربما كان هذا الفنان مناصراً ومؤيداً كبيراً للقضية الفلسطينية، ومحباً للفلسطينيين، وربما لا يكون كذلك، ألله أعلم، إنما ما قاله يأتي في إطارa سيناريو محدد سابقاً، هدفه إثارة مسألة معينة، وتسليط الضوء على قضية ما (وهي التطبيع)، بالمثل، لا يعني أن الممثل الذي يؤدي دور المجرم والسارق أنه كذلك.. وفي الرواية، يطرح المؤلف وجهات نظر متعددة ومتناقضة على لسان شخوص وأبطال الرواية، وهذه ليست بالضرورة تعبر عن رأي المؤلف، فالرواية والفيلم والمسلسل تصور الواقع والمجتمعات وتناقضاتها كما هي دون تنميق، وهذا دورها ومهمتها.
وأيضاً، أجد من الغريب انتشار تلك الفيديوهات على قنوات التواصل الاجتماعي بشكل مجتزأ ومنقوص، أي اختيار جزء من الحوار، وليس كله، وهذه لا تندرج فقط في سياق عدم الأمانة، وعدم المهنية، بل يمكن فهمها، خاصة مع انتشارها الواسع ضمن حملات سياسية ممنهجة، وبالذات من أكثر جهة مستفيدة، أي من قِبل إسرائيل.
فمن الواضح أن تلك الفيديوهات، والتعليقات عليها، تعزز أجواء الفرقة والخلافات، وتعمق روح الكراهية بين الفلسطينيين من جهة، وشعوب وحكام الدول العربية، تحديداً دول الخليج العربي من جهة أخرى.
أعتقد بوجود فئات معينة محدودة في المجتمعات العربية تروج للتطبيع المجاني، وتروج لفكرة أن القضية الفلسطينية عبء على الأمة العربية، وأنّ مناصرة الفلسطينيين استنزفت قدراتهم، وأن إسرائيل ليست عدواً، أو ليست شريرة، وأنه يتوجب عقد سلام شامل معها حتى نحقق الرخاء الاقتصادي. ولكني أجزم أنها فئات قليلة جداً من ناحية العدد، ومنبوذة اجتماعياً، ولا تمثل إلا نفسها.. وأن السواد الأعظم من الشعوب العربية (إن لم تكن كلها) على نفس عهدها من فلسطين، وما زالت متمسكة بها، ومؤمنة بعدالة قضيتها، ومستعدة للتضحية من أجلها.
لذا، من واجبنا الوطني تمتين جسور الثقة والمحبة والتواصل مع كل الشعوب العربية، سواء تلك الغنية التي تقدم لنا الدعم المادي، ولم تبخل علينا يوماً، أو تلك الشعوب الفقيرة، التي تحبنا، وتقدم لنا الدعم المعنوي، وما زالت تواقة للتضحية بأغلى ما تملك.
أما الانسياق وراء حملات الكراهية، والفتن، وتعميق النزاعات مع الشعوب والأنظمة العربية، فلا يفيد إلا إسرائيل.. إسرائيل التي تريد الاستفراد بنا. 
وأيضاً يفيد بعض الأنظمة التي تريد التطبيع فعلاً، لكن ما يمنعها خشيتها من شعوبها.. فإذا خسرنا شعوبها، سنمكنها من المضي في مخططاتها.
العرب هم عمقنا الإستراتيجي، من الغباء معاداتهم، وعلينا أيضاً أن نعترف بأننا مقصرون، أو على الأقل منقسمون إزاء القضايا الكبرى التي هزت المجتمعات العربية طوال السنوات الماضية، واكتفينا بدور المتفرج، وأحياناً الشامت.
«كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء».. درويش.