يعبّر ما حدث في بيت لحم، يوم الجمعة الماضي، من ضرب مبرح قام به عناصر في جهاز "الأمن الوطني" الفلسطيني ضد متظاهرين يحتجون على الإجراءات الإسرائيلية في القدس، عن مجموعة مآزق مركبة، خصوصا مأزق العقيدة التي تتبناها الأجهزة الأمنية الفلسطينية؛ وثانيها مأزق حركة "فتح". وبالتالي، وكمحصلة لهذين المأزقين، هناك مأزق الحركة الوطنية الفلسطينية، ومأزق الشعب الفلسطيني ككل.
يعبر قادة كبار قريبون من قمة هرم المؤسسة الأمنية، في مناسبات عامة ومحادثات خاصة، عن شعورهم بالحيرة والألم إزاء واقع أجهزتهم الأمنية. فهم حين تحولوا من مناضلين ومقاتلين وأسرى سابقين إلى ضباط أمن، صاروا يقومون بمهمات كثيرة، منها ما يتضمن التنسيق الأمني مع الإسرائيليين. وقد كان ذلك وفق مبدأين أساسيين: أولهما، أنّهم يفعلون ذلك في سياق بناء الدولة الفلسطينية والانتقال إلى مرحلة ينسحب فيها الإسرائيليون. والمبدأ الثاني، التبادلية؛ أي أنّه مقابل قيام الفلسطينيين بمهام أمنية، يمتنع الإسرائيليون عن دخول المناطق (أ)، ويتواجد الفلسطينييون على المعابر الحدودية.
الآن لم تتحقق الدولة الفلسطينية، وانتهت التبادلية؛ وبالتالي ضربت كل فكرة العقيدة الأمنية الفلسطينية للسلطة الوطنية.
عقب انتفاضة الأقصى، تم تقبل فكرة إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية من دون العودة إلى التبادلية، وإلى حصانة مناطق (أ) والتواجد على المعابر؛ على اعتبار أنّ هذا مؤقت، ومن مهامه إنهاء "الفلتان" الأمني وتحقيق أمن المواطن الفلسطيني (داخليا) بانتظار الجهود السياسية. لكن الوضع الراهن يعاني انسدادا في الأفق السياسي، ويتم انتهاك أمن المواطن الفلسطيني يومياً من قبل الإسرائيليين، من دون أي احترام للاتفاقيات الأمنية الموقعة مع الفلسطينيين. فعمليات الاعتقال التي تتم في المدن الفلسطينية ممنوعة بموجب اتفاقيات أوسلو، لكن الإسرائيليين لا يكترثون، والقرار الفلسطيني الأمني هو عدم مواجهة الإسرائيليين. كما تتعمق حالة الفلتان الأمني على المستويات الجنائية والأمنية؛ إذ يُمنَع على أجهزة الأمن الفلسطينية العمل في غالبية مناطق الضفة الغربية، ويغيب الإسرائيليون عن أي حضور شرطي، إلا إذا تعلق الأمر بأمن الإسرائيليين. وبالتالي، صارت هناك مناطق عديدة يطلق عليها الفلسطينيون اسم مناطق "فَلّة حكم"، مثل المناطق المحيطة بالقدس (الرام، وكفرعقب، والعيزرية)، حيث تنتشر عصابات ونشاطات مرتبطة بعالم الإجرام الإسرائيلي، مثل تجارة المخدرات والسيارات الإسرائيلية المسروقة وغير المرخصة، والانفلات شبه الكامل فيما يتعلق بقوانين المرور والنقل، ونادراً ما يسمح للأمن الفلسطيني بالتدخل.
كان البديل الفلسطيني زمن ما قبل "السلطة"، هو الاعتماد على فصائل العمل الوطني. هذا فضلا عن أن الانسحاب الإسرائيلي من حفظ الأمن المدني (السرقة والفوضى والجرائم العادية) لم يكن كلياً حينها كما هو الآن. ويمكن تخيل قيام الفصائل، بما فيها حركة "فتح"، بدور شعبي في حفظ الأمن في المناطق الخارجة عن أي قانون. لكن العلاقة بين أجهزة الأمن و"السلطة" من جهة، وحركة "فتح" من جهة أخرى، مرتبكة.
دعت "فتح" (التنظيم) إلى معاقبة وملاحقة من تورط من عناصر أمن في أحداث الجمعة، وإلى "إقالة المسؤولين عن حوادث الاعتداء". وأصدرت قيادة "الأمن الوطني" الفلسطيني اعتذارا، وقامت بإحالة ضباط كبار للتقاعد، وحكمت بالسجن على عناصر ساهموا في الأحداث. لكن بقي السؤال الخاص بالعقيدة الأمنية من جهة، وموقع "فتح" الوطني من جهة ثانية، قائماً.
في حالة "فلة الحكم"، فإنّ الشائع تجاه الناس الاعتماد على عائلاتهم وأنفسهم، وربما اللجوء إلى مسلحين يدفعون لهم لحماية أنفسهم؛ فتصبح أجهزة إنفاذ القانون المفترضة خارج حسابات الشارع، ويتحول التنظيم السياسي (الفصيل) لمجرد قوة من بين قوى اجتماعية وعشائرية، ومجموعات تحاول إثبات وجودها في تسيير أمور الناس، بعد أن كان يقودهم ويحدد إيقاع الحياة اليومية.
تعيش الأجهزة الأمنية الفلسطينية مأزقا يتعمق يومياً، أهم معالمه أنه لا توجد صيغة للعمل في ظل، وفي وجه، الاعتداءات الإسرائيلية، وبالتالي لا ينظر لها الناس كجزء من مشروع وطني في مواجهة العدوان، بل ينتقدونها لأنها تقوم "بالتنسيق الأمني"، وتمنع الاحتكاك مع جنود الاحتلال، إضافة إلى أنها لا تعمل في أغلب المناطق لحفظ الأمن الداخلي الفلسطيني، وأن "التنظيم" الفصائلي فقد دوره لأن عناصره أصبحوا موظفين وضباطا في أجهزة رسمية، وقد تُفهَم عملية محاولاتهم فرض النظام نوعا من ازدواجية السلطة.
عن الغد الاردنية