لم يؤجل «كوفيد- 19» عمل المشروع الصهيوني لتأكيد استيلائه على فلسطين؛ لا شيء يشغل المستعمِرين هناك عمّا يرونه عملاً حيوياً ووجودياً مثل التنفس، والذي لا ينبغي السهو عنه لحظة. وكما يقول المحللون ويعرف الجميع، فإن الضم الوشيك لمناطق إضافية من الضفة المحتلة هو نتيجة طبيعية لسيرورات «أوسلو» بالكيفية التي جرت عليها. ولا يبقى بعد ذلك سوى الخطوة الأخيرة لابتلاع وتطبيع استعمار البقية الصغيرة من القطع المنفصلة من «الدولة الفلسطينية».
تقول السلطة الفلسطينية إنه إذا – وعندما- يحصل الضم، فإنها «لن تقف مكتوفة الأيدي». وكان ينبغي أن لا تقف مكتوفة الأيدي منذ وقت طويل، إذا كان في جعبتها شيء وهي التي جردت نفسها وشعبها من الخيارات البديلة. لم يلتزم الكيان بشيء من «أوسلو» سوى «التنسيق الأمني» سيئ الصيت. وقد أعلن معظم المراقبين الوازنين موت أوسلو منذ وقت طويل وهم يرون توسيع الاستيطان المستمر والإعداد الواضح للمرحلة التي نشهدها اليوم. لكن القيادة الفلسطينية اختارت موقف الإنكار وأصرت على المضي بالشوط إلى نهايته الحتمية التي نشهدها الآن. وإذا كان المسؤولون في السلطة يريدون تقييماً جامعاً لكل تفاعلاتهم وما كانوا مسؤولين عنه وفعلوه بأمانة القضية منذ «أوسلو» فهو هذا الضم -وما يليه.
كانت النتيجة هي الوقوف المتذلل في الجامعة العربية والأمم المتحدة لسرد قائمة من التنازلات الفلسطينية المجانية دائماً منذ «أوسلو». وكان سرد هذه التنازلات في حد ذاته إدانة لطريقة القيادة التي لم تحسب أن التنازل بلا مقابل مكفول هو قضية خاسرة حتماً. وسوف يقول أي مستمع للبكائيات في دخيلته – بعيداً عن الإشفاق- إن الإبل لا تورد هكذا في قيادة حركة تحرر وطني مع عدو فريد في تكوينه وأساليبه.
في هذا الصراع، ليس الخصم مستعمِراً تقليدياً يحتل أرض الآخرين لينسحب منها إلى بلده عندما يميل الميزان ضده. عدو الفلسطينيين مشروع أسس نفسه على اعتقاد ابتكره واعتنقه بأنه صاحب الأرض المشرد الذي يعود ليحرر وطنه كخيار وطني وديني ووجودي. ولذلك، يجيز استخدام أي شيء وكل شيء لتحقيق هذه الغاية «الأخلاقية» -بتعريفه. لذلك يعلمون أولادهم أن قتل الفلسطينيين نضال وواجب وطني ودفاع عن الوطن والحق. وفي السياق، لم يؤمنوا ولم يعلنوا ولو مرة واحدة أي حق للفلسطينيين –»غير الموجودين»، «المختلقين»، و»الإرهابيين» بالنسبة لهم في أحسن الأحوال.
في المقابل، وبسبب التهرب من الاعتراف بوجودية الصراع بنفس المقدار، أصرت قيادة «أوسلو» على أنسنة الآخر/ العدو – في الخطاب المعلن والوسائل- معتقدة أن هذا موقف يستجدي الشفقة بالقناطير. وبذلك فرطت بجوهر قوة قضية فلسطين: عرضها كما هي، بعدالتها المتأصلة بما هي، والإصرار على شرعية كل وسيلة ممكنة في كفاح شعب يدافع عن وطنه وحريته ووجوده أمام عدو غير إنساني بأي معيار. وكان ينبغي أن يتماهي هذا الخطاب مع العمل اليومي لتكديس الوسائل من كل الأنواع، وأهمها تعميق الإيمان المطلق، محلياً وعالمياً، برؤية الآخر كعدو كما هو، وعدم المساهمة في أنسنته ومعاملته بما ليس هو.
لا معنى للتعويل على «القانون الدولي» في الحالة الفلسطينية، والضم الوشيك ينضم فقط إلى الأدلة المكلفة دائماً على عبثية هذا التعويل. ولا ثقة في أميركا بأي إدارة، ولا في الكيان بأي حكومة، إذا تعلق الأمر بالوفاء بعهد أو إقامة أي اعتبار لفلسطينيين ضعفاء -أو حتى رؤيتهم كبشر. أما علامَ عوّلت سلطة «أوسلو» حين باعت كل هذا الوقت بلا ثمن، والذي اشتراه العدو مجاناً لبناء مشروعه كل دقيقة، بـ»تنسيق أمني» مريح، فيبقى أن نعرف، إذا فعلنا أبداً.
لن يغير «الضم» سوى التسميات، والمزيد من تبديد وهم «أوسلو». وكما كتب روبرت سويفت: «بالنسبة للذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي في المناطق التي سيتم ضمها قريباً في الضفة الغربية… القليل فقط يمكن أن يتغير على الأرض. كانت (قوات الاحتلال) موجودة هناك بالفعل منذ عقود، وكانت هذه هي نفس الأرض الواقعة تحت سيطرتهم بحزم».
ربما يفك «الضم» الأيدي المكتوفة لزعماء دولة «أوسلو» المتلاشية أخيراً، كما يقترحون. لديهم شيء مخبأ سيخرجونه من جيوبهم ويؤلمون به العدو – عندما ينفذ «الضم»! ربما التحلل من «أوسلو».