الموقف الأخلاقى للسيدة أنجيلا ميركل من قضية اللاجئين يحرجنا ويشعرنا بالخجل. كان ذلك انطباعا أوليا حصلته من متابعة تصريحاتها حول الموضوع، خصوصا أثناء المؤتمر الصحفى الذى عقدته ببرلين فى ٣١ أغسطس الماضى ودعت فيه إلى اتساع الصدور لاستقبال اللاجئين، وقالت بوضوح إن حكومتها لن تتسامح مع الذين يشككون فى كرامتهم، كما حذرت من المشاركة فى المظاهرات المعادية التى دعا إليها البعض انطلاقا من خلفياتهم العنصرية واليمينية المتطرفة. وهو كلام تبنى لغة مختلفة مغايرة لما اعتدنا أن نسمعه من السياسيين الأوروبيين فى المواقف التى يكون العرب طرفا فيها.
ازداد تقديرى للسيدة حين قرأت ما كتبه الأستاذ غسان شربل رئيس تحرير جريدة الحياة اللندنية (نشر فى ٢١/٩) عن لقاءاته فى برلين مع بعض اللاجئين السوريين. وفى تقديمه لحواراته التى أجراها معهم ذكر أن ألمانيا استقبلت فى السنة الحالية نحو نصف مليون طالب لجوء. وتتوقع أن يقترب العدد من المليون مع نهاية السنة وذكر أن تكاليف استقبال اللاجئين وتأمين اقامتهم هذه السنة يتوقع أن تصل إلى أكثر من ستة بلايين يورور. كما تتوقع الحكومة تكاليف مشابهة فى السنة المقبلة إذ واضح أن الحكومة الألمانية سارعت إلى تقديم تسهيلات خصوصا للسوريين ووفرت حكومات الولايات ٤٠ ألف مكان إضافى للإقامة. وساهمت الدولة فى تطويق المتخوفين والمتعصبين بالقول ان ألمانيا تحتاج إلى شباب وعائلات وأيدٍ عاملة وان موجة اللجوء لن تؤدى إلى تقليص الخدمات أو زيادة الضرائب.
أضاف الأستاذ شربل أن السلطات الألمانية تسارع إلى توفير مقر إقامة مؤقت للواصلين. فتستقبلهم فى مدارس أو صالات رياضية أو ابنية اخلتها الشرطة. بعدها تستمع محكمة إلى طالب اللجوء وتسأله عن هويته وظروف مغادرته. تسأل السوريين حاليا عما تعرضوا له فى بلدانهم وما إذا كانوا شاهدوا جرائم وعمليات تعذيب. فى الإقامة المؤقتة يحصل اللاجئ على طعام مجانى ورعاية طبية و١٤٠ يورو شهريا. ولدى حصوله على الإقامة يعامل وكأنه ألمانى عاطل عن العمل. تأمين صحى وبدل لاستئجار بيت وفق مواصفات معينة ومصروف شهرى قدره ٣٦٠ يورو لمن هو فوق الرابعة والعشرين ولا يقل المبلغ عن مئتين لكل طفل. تعطى الملاجئ فرصة تعلم اللغة الألمانية على نفقة الدولة، فضلا عن بطاقة مخفضة لاستخدام وسائل المواصلات.
مما ذكره أيضا أن سياسة ميركل ومواقفها جعلت الحكومة والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام تتعامل برحابة مع اللاجئين الواصلين. لذلك تنادى أطباء من برلين لمساعدتهم واستجاب لندائهم ألف طبيب وبينهم عدد من أصل عربى. من ثم فإنها نجحت فى إيجاد جو ايجابى حاصر المتخوفين من تسلل إرهابيين بين اللاجئين أو من «موجة إسلامية» ستغير مع الوقت وجه ألمانيا بفعل عمليات لم الشمل. وخلص من ذلك إلى أنها اتخذت قرارا تاريخيا كبيرا هو أن تكون ألمانيا فى السنوات المقبلة متعددة وملونة.
أيا كانت الدوافع الأخرى التى دفعت السيدة ميركل إلى تبنى ذلك الموقف، فالذى لا شك فيه أن العامل الأخلاقى والإنسانى كان له حضوره بينها. ولم يكن الأمر مقصورا على النبل الأخلاقى فحسب، لان إعلان ذلك الموقف والالتزام به احتاج إلى شجاعة من نوع خاص. ذلك ان السيدة تنتمى إلى حزب (الديمقراطى المسيحى) له قواعده التى لم يرحب بعضها بسياستها، ثم ان لها معارضين وخصوما يتصيدون، فضلا عن ان موقفها كان بمثابة سباحة ضد التيار فى أوروبا التى تنافست بعض دولها فى إقامة الحواجز والأسوار لوقف تدفق اللاجئين، فضلا عن انها تعج بالحركات اليمينية التى تثير المخاوف مما أسمته «أسلمة أوروبا»، إلى جانب التحذير مما يوصف بأنه إرهاب إسلامى.
هذه الرحابة التى أشاعتها المستشارة الألمانية فى أوساط بلادها كان لها صداها فى أنحاء أوروبا، سواء على صعيد النخبة السياسية أو فى أوساط الرأى العام بصورة أو أخرى. لذلك أزعم أنه إذا ما حدث بعض التعقل والتصرف المسئول من جانب الدول الأوروبية فى موضوع اللاجئين، فسيظل لهذه السيدة ابنة القس اللوثرى نصيب فيه. ولا غرو والأمر كذلك ان تسلط عليها الأضواء بقوة فى المرحلة الراهنة، رغم انها ظلت تصنف باعتبارها أقوى امرأة فى العالم طوال السنوات من ٢٠١١ وحتى ٢٠١٥، طبقا لإعلان مجلة فوربس الاقتصادية ذات الشهرة العالمية فى ذلك المجال.
حين أعلنت موقفها إزاء تسونامى اللاجئين، نشرت مجلة «سليت» الفرنسية مقالا للكاتب دانيال فرنيه مترجم الحياة الشخصية للإعلام تساءل فيه عما إذا كانت السيدة ميركل لغزا يصعب اختراقه أم شخصية معقدة. وذكر انها حين اطلقت العنان لقيمها المرجعية والتزامها الأخلاقى فانها تصرفت بمسئولية، واحترمت القواعد المعمول بها، ولم تسمح لأى منهما ان يعتدى على حدود الاخر.
الشجاعة التى أبدتها السيدة البالغة من العمر واحدا وستين عاما، ظلت سمة لها لازمتها طيلة حياتها، منذ عملت نادلة فى حانة أثناء دراستها للفيزياء فى جامعة كارل ماركس، وحين شقت طريقها فى مجال الدراسات الفيزيائية والسياسية، واحتفظت فى زواجها الثانى بلقب زوجها الأول وزميلها فى الدراسة خلال السبعينيات اولريش ميركل. وتدرجت فى مراتب الحزب ومواقع السلطة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن.
حين يقارن المرء الصورة التى رسمها رئيس تحرير جريدة الحياة بتلك التى تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعى للاجئين السوريين وهم مكدسون فى بعض أقسام شرطة المدن الساحلية، ينتابه شعور بالحزن والخزى، إلا أننى تداركت الأمر بعد ذلك وقلت ان السلطات لم تخصهم بتلك المعاملة المهينة، لانها عاملتهم بمثل ما تعامل مواطنيها. وهو ما نبهنى إلى أن المشكلة ليست فى المقارنة بين أوضاع اللاجئين عندهم عندنا، ولكنها أعمق من ذلك بكثير، لان المقارنة الصحيحة تكون بين موقع الإنسان واحترام كرامته فى الحالتين.
لا يكفى ان تظل السيدة ميركل أقوى امرأة فى العالم، لان موقفها فى قضية اللاجئين يرشحها بجدارة لنيل جائزة نوبل للسلام. ليتهم يعطونها ما تستحق.