28 أيلول 2015
بعد أكثر من عشرين سنة على توقيع اتفاقات اوسلو يجب طرح سؤال لماذا لم تثمر هذه الاتفاقات عن حل وسط تاريخي كما توقع المبادرون الى عقدها؟ يجب أن يوجه هذا السؤال لمن أيدوا الاتفاقات واعتبروها بداية الطريق للمصالحة التاريخية بين الشعبين.
هناك أكثر من سبب لعدم تحقيق نهاية للصراع وتوقيع اتفاق سلام بين اسرائيل والفلسطينيين: عدم الثقة المتبادل بين الشعبين، الضغط الداخلي لمعارضي الاتفاق عند الطرفين، ألاعيب ياسر عرفات، قتل رئيس الحكومة اسحق رابين، انتصار اليمين في الانتخابات الاسرائيلية، «الارهاب» الفلسطيني، استمرار البناء في المستوطنات، الشرخ بين «فتح» و»حماس»، رؤساء اميركيين فعلوا القليل (جورج بوش الابن) أو أنهم فعلوا أكثر من اللزوم بطريقة خاطئة (براك اوباما)، ضعف محمود عباس، والعقبات التي وضعتها حكومات نتنياهو أمام المفاوضات. كل ذلك صحيح وكل شخص يختار لنفسه الاسباب الملائمة حسب قناعته.
لكن يُضاف الى كل هذه الاسباب الاختلاف الكبير في المفاهيم عند الطرفين حول الصراع، هذا الاختلاف الذي يفضل الكثيرون تجاهله.
اغلبية الاسرائيليين يعتبرون الصراع صراعا بين حركتين قوميتين: الحركة القومية اليهودية، الصهيونية، والحركة القومية الفلسطينية، التي هي جزء من الحركة القومية العربية. المنطق الداخلي لهذا الموقف يؤدي بشكل مبدئي الى حل الدولتين، حتى لو فضل اليمين الاسرائيلي تجاهل ذلك، ففي نهاية المطاف بنيامين نتنياهو نفسه تبنى هذا الحل رغم أن هذا خلاف لرغبته.
الموضوع هو أن الاسرائيليين الذين يعتبرون الصراع بين حركتين قوميتين يفترضون أن هذا هو موقف الطرف الفلسطيني ايضا، لذلك عند فشل المفاوضات في مرحلة معينة يركزون على اسباب الفشل ويفترضون أن أي تنازل كهذا أو ذاك سيحل المشكلة.
هذه للأسف الشديد خدعة.
الموقف الفلسطيني الاساسي، الذي لا يتحدثون عنه أمام الاسرائيليين – وأمام من يحجون الى رام الله – يختلف تماما، وهم لا يخفون ذلك: حسب رأيهم ليس هناك صراع بين حركتين قوميتين، بل صراع بين حركة قومية واحدة – الفلسطينية – وبين كيان كولونيالي امبريالي – اسرائيل. وحسب وجهة نظرهم ستكون نهاية اسرائيل مثل نهاية أي حركة كولونيالية: ستتلاشى. اضافة الى ذلك، اليهود حسب رأي الفلسطينيين ليسوا أمة بل طائفة دينية، وحق تقرير المصير الذي هو حق دولي لا يسري عليهم.
لهذا السبب فان اسرائيل كلها، وليس فقط الضفة الغربية، تشبه الجزائر – وهي ارض عربية طرد منها الكولونياليون الاجانب؛ هذا هو سبب عدم وجود اسرائيل في خرائط كتب التعليم الفلسطينية؛ ولهذا السبب يتمسكون بعدم التنازل عن حق العودة للفلسطينيين الى داخل اسرائيل؛ وهذا سبب التشدد الفلسطيني الرسمي – من أبو مازن وحتى صائب عريقات – لعدم الاعتراف بأي شكل من الاشكال بدولة الأمة اليهودية. ومن وجهة نظر الفلسطينيين فان اسرائيل هي كيان غير شرعي سيختفي من العالم.
أحد تعبيرات الفجوة بين الموقف الاسرائيلي والموقف الفلسطيني يبرز في الاختلاف في اللغة الدبلوماسية للطرفين عندما يتحدثان عن حل الدولتين. الصيغة الاسرائيلية تتحدث عن «حل الدولتين للشعبين» واحيانا يضاف اليه «دولة قومية فلسطينية الى جانب الدولة القومية اليهودية». اللغة الفلسطينية تتحدث فقط عن حل الدولتين، ولا تتحدث أبدا عن دولتين لشعبين. من الواضح أنه اذا كان اليهود ليسوا شعبا فلا حق لوجود الدولة اليهودية.
هذا ايضا هو السبب الحقيقي لعدم وجود الندم عند الجمهور الفلسطيني بسبب رفض قرار الامم المتحدة تقسيم البلاد في 1947. وحسب معرفتي – سأكون سعيدا اذا تبين أنني مخطئ – لا يوجد حتى اليوم نقاش جدي حول خطة التقسيم في اوساط الجمهور الفلسطيني: هناك عدد لا يحصى من الكتابات والنقاشات حول الفشل العسكري للعرب في 1947 و1948، لكن ليس هناك من يقول إن قرار رفض قرار التقسيم والشروع بالحرب كان خطأ من الناحية السياسية أو الاخلاقية. لم يتجرأ أي فلسطيني حتى اليوم من المجال السياسي أو الثقافي على الاعتراف بأنه لو قبل الفلسطينيون خطة التقسيم لكانت أنشئت في أيار 1948 دولة فلسطينية على جزء من «ارض اسرائيل» الانتدابية ولما كان هناك لاجئون. من المريح اكثر تجاهل المسؤولية الاخلاقية عن الكارثة التي تسببت بها القيادة الفلسطينية لشعبها.
النقاش ليس مجرد نقاش تاريخي أو رواية: اذا كان الموقف المسيطر لدى الجمهور الفلسطيني هو أن اسرائيل ليست دولة شرعية تعتمد على حق الشعب في تقرير المصير، بل كيان امبريالي، فليس هناك مكان لانهاء الصراع عن طريق حل وسط. اغلبية الاسرائيليين يعتقدون أن الصراع في أساسه جغرافي، لذلك يسعون الى اتفاق جغرافي – العودة الى حدود 1967، اخلاء المستوطنات، وحل وسط في القدس – هذا هو مفتاح حل الصراع. سلوك الفلسطينيين في المفاوضات في كامب ديفيد في عهد عرفات وبعد ذلك في الاتصالات بين محمود عباس وايهود اولمرت، يثبت أن الحديث يدور عن لعبة أكثر عمقا. ايضا قول عباس إن حركته غير قادرة على التنازل عن حق العودة لأن هذا الحق «حق فردي» لكل لاجئ فلسطيني أو لأحفاده يبرهن على أنه لو تم حل الموضوع الجغرافي فان الصراع سيستمر. هذا ايضا سبب رفض عباس الذهاب في طريق الرئيس المصري أنور السادات والقاء خطاب في الكنيست: من وجهة النظر الفلسطينية سيكون هذا اعترافا بسيادة وشرعية دولة اسرائيل.
أدرك أن المعسكر المعتدل في اسرائيل، الذي يعترف بحق تقرير المصير للفلسطينيين، ويعارض المستوطنات ويؤمن بحل الدولتين، يستصعب قبول حقيقة أن حقيقة الفلسطينيين يرفضون حق اسرائيل في الوجود. لكن لا مناص من التعامل مع هذه المواقف – يجب عدم اليأس وعدم التسليم بالوضع الراهن والقول إنه ليس هناك شيء نفعله.
يمكن التعلم من صراعات قومية مشابهة في الوقت الحالي والأسف من أن معظم الاسرائيليين ينشغلون بالجدل الداخلي الذي لا ينتبه لذلك. الصراع القومي في قبرص، كوسوفو، البوسنة بل وفي كشمير البعيدة، يبرز الشبه مع الصراع الاسرائيلي الفلسطيني: كلها تحمل العامل الجغرافي – الاحتلال التركي لشمال قبرص، موقف صربيا بأن كوسوفو هي جزء من وطنهم التاريخي، البُعد الجغرافي للصراع بين الحركات القومية في البوسنة والاحتلال الهندي لاجزاء من كشمير. كل هذه الصراعات ليست فقط بسبب الجغرافيا بل هي صراعات بين حركات قومية فيها طرف واحد على الاقل لا يعترف بحق الطرف الآخر في تقرير المصير. وفي كل الصراعات توجد روايات وذاكرة تاريخية متصادمة ومواقف متعارضة حول السيادة، الاحتلال، التطهير العرقي، الاستيطان ومعارضة الاحتلال. هذه ليست صراعات دينية، لكن لكل طرف يوجد بُعد ديني يرتبط بالاماكن التي تعتبر مقدسة بالنسبة له.
هذا الدمج هو سبب عدم وجود حل لأي صراع من هذه الصراعات، حتى بعد عشرات السنين من المحاولات الدولية الصادقة لتقديم الحلول: خطة كوفي انان حول قبرص، اتفاق دايتون حول البوسنة، وهكذا دواليك. هذه الخطط تركزت على الجانب الجغرافي للصراع، لكنها لم تجد الحلول بسبب وجود اسباب عميقة وجوهرية اخرى، ومع ذلك كانت هناك سبل للحد من العنف.
اليمين الاسرائيلي يريد تخليد الوضع الراهن، وسياسة نتنياهو تُظهر أنه وضع نصب عينيه هدفا واحدا هو منع نقل اراض للسيطرة الفلسطينية، ومنع أو تأجيل اقامة الدولة الفلسطينية. ومن يعتقد أن نتنياهو يريد فقط البقاء في الحكم، مخطئ (كل سياسي يسعى الى ذلك): هو يعتبر سلطته هدفا قوميا، وكل خطوة (بما في ذلك التركيز على السلاح النووي الايراني، الامر الذي لن يتنازل عنه رغم أنه لا يرغب بمهاجمة ايران)، موجهة في هذا الاتجاه: حرف الانظار عن الموضوع الفلسطيني.
المعارضة برئاسة المعسكر الصهيوني لا تقدم بديلا عن هذه السياسة. رئيس المعارضة اسحق هرتسوغ على حق في طلبه الدائم أنه يجب العودة الى المفاوضات مع الفلسطينيين، لكن هذا غير كاف لأن هذه ليست خطة سياسية. فهل يعتقد أنه اذا عادت حكومة نتنياهو الى طاولة المفاوضات فستكون النتيجة اتفاقا يستند الى مبدأ الدولتين؟ اضافة الى ذلك: اذا كان هرتسوغ رئيس الحكومة وعاد الى طاولة المفاوضات فهل يمكنه أن يقترح على الفلسطينيين أكثر مما اقترحه ايهود باراك في كامب ديفيد واولمرت في نقاشاته مع عباس؟ وقد رفض الفلسطينيون الاقتراحات الاسرائيلية في الحالتين. ايضا الفكرة التي تسحر الكثيرين، تبني مبادرة الجامعة العربية، لا تصمد في امتحان الواقع حيث العالم العربي ينهار وهناك أربع دول لم تعد دولا. الجامعة العربية صادقة في نيتها ورغبتها في تحقيق المبادرة العربية لا تعني أنها ستأتي بالخلاص.
من الافضل أن يقول هرتسوغ امورا مختلفة تستدعي تفكيرا ابداعيا وجرأة سياسية. عليه أن يقول إنه يجب العودة الى طاولة المفاوضات وإن الحل يجب أن يكون دولتين للشعبين. لكن انطلاقا من معرفة صعوبة تحقيق اتفاق كهذا الآن، فان على اسرائيل اتخاذ عدة اجراءات من شأنها التخفيف على تحقيق الاتفاق المستقبلي. وحكومة برئاسته ستهتم بالخطوات التالية:
• الوقف التام للبناء في المستوطنات واخلاء البؤر الاستيطانية غير القانونية حسب ما تعهدت به حكومات سابقة.
• تطوير خطة سخية للاخلاء – التعويض للمستوطنين الذين يقومون بالاخلاء بأنفسهم ومنع سيطرة اليهود على مبان في القدس الشرقية.
• الاعلان عن «تدفيع الثمن» تنظيما غير قانوني.
• تشجيع الاستثمارات الدولية في الضفة.
• رفع ما تبقى من الحصار على قطاع غزة وتشكيل هيئة بالتعاون مع المصريين والاتحاد الاوروبي للرقابة على عبور البضائع والناس من غزة واليها.
كل هذه الخطوات تسعى الى اظهار وجهة اسرائيل، حتى لو لم تكن تنتظر استجابة الفلسطينيين.
أدرك أن هذه الخطوات ليست سهلة. فمن جهة هي لن تؤدي الى الحل الدائم، ومن جهة اخرى ستثير المعارضة في اسرائيل. لكنها ستشكل بديلا واقعيا للوضع الراهن، وحتى لو كانت جزئية فيمكن أن يتبلور حولها معسكر صهيوني حقيقي وكبير. لا تكفي العودة الى طاولة المفاوضات كمفتاح للحل. فهذه الصيغة جربناها أكثر من عقدين، وعندما حاولت حكومات معتدلة برئاسة باراك واولمرت السير في هذه الطريق، فشلت – ليس فقط بسبب اسرائيل: من يلقي اللوم على اسرائيل فقط مصاب بالعمى. فالرفض الفلسطيني الذي يستمر الى الآن يتحمل قسم من المسؤولية.
وحول فكرة الكونفيدرالية التي طرحت مؤخرا، أحترم الرئيس رؤوبين ريفلين لتأكيده على حقوق المواطنين العرب الاسرائيليين، حيث إنه يسير بذلك على طريق جابوتنسكي. لكن ريفلين ايضا يؤيد «ارض اسرائيل الكاملة» ويعارض اقامة الدولة الفلسطينية. فعندما سُئل عن المستقبل، عارض اقامة الدولة الفلسطينية، ولانهاء التناقض الداخلي بين الأمرين طرح فكرة الكونفيدرالية.
على مستوى الاقوال هذا مخرج مريح، لكنه للأسف ليس واقعيا. أولا، لا يوجد مكان في العالم فيه كونفيدرالية (سويسرا تسمي نفسها كونفيدرالية لاسباب تاريخية لكنها من ناحية فعلية هي فيدرالية). لقد طرحت الفكرة الكونفيدرالية عند انهيار الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا، وفشلت. فالكونفيدرالية تحتاج، قبل أي شيء، وضع الحدود للأطراف فيها. هل يعتقد أحد أن الفلسطينيين سيوافقون على كيان فلسطيني لا يشمل كل مناطق الضفة؟ هل ستوافق اسرائيل أن تكون المستوطنات داخل فلسطين في اطار الكونفيدرالية؟ يتبين أن الحل الكونفيدرالي لن يجيب على موضوع القدس. ثانيا، الكونفيدرالية خلافا للفيدرالية تبقي كل طرف كيانا مستقلا معترفا به دوليا، بما في ذلك العضوية في الامم المتحدة. هل ستوافق اسرائيل على ذلك؟ اذا قامت كونفيدرالية كهذه فستكون على اساس التناوب، فهل سيقبل الاسرائيليون وجود رئيس فلسطيني؟.
نقطة أخيرة، كيف يمكن انشاء مؤسسات مشتركة للكونفيدرالية، حيث يكون أحد طرفيها دولة ديمقراطية (اسرائيل) والثاني كيان يشبه دول الاستخبارات العربية أكثر من النموذج الديمقراطي؟ ولاسباب نعرفها جميعا لن تكون انتخابات في السلطة الفلسطينية. ولست على ثقة أن الكثير من الاسرائيليين سيوافقون على العيش في اطار كهذا. باختصار، مع احترامي للرئيس ريفلين، هذه الفكرة لن تحلق لأنها عبارة عن عدد من التناقضات الداخلية.
يجب الاعتراف أنه ليس هناك حل في الوقت الحالي. هذا الاستنتاج المتشائم يعني ضرورة اعتراف المعارضة ورئيسها بذلك. فعليهم تقديم البديل، ليس عن حل الصراع، بل التخفيف من حدته وتقريب الطرفين من الحل التاريخي. لكن لا يجب أن نخدع أنفسنا. فطالما أن الفلسطينيين يقتنعون أنهم يقاتلون، بالسلاح أو بالدبلوماسية الكيان الصهيوني الكولونيالي والامبريالي، فان الحل التاريخي لن يتحقق. يصعب الاعتراف بذلك، وبنفس القدر يجب تطوير استراتيجية خلاقة بديلة للخروج من الوضع الراهن الذي يهدد وجود دولة اسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية.
عن «هآرتس»