في ثلاث مناسبات مضت، ظنت غزة، أن دمها الذي سال بغزارة، كان كافياً لوضع حد نهائي لمعاناة طويلة متواصلة تتعرض لها منذ عقود، ولكنها صارت منذ نحو ثماني سنوات أشد مضاضة، ذلك أن لذوي القربى بها شأناً، فبعد حروب 2008/ 2009، 2012، ثم 2014، وفي كل مرة وبسبب من «تعاطف» شعبي فلسطيني وعربي يحدث مع غزة، إبان مواجهتها للوحش الإسرائيلي، كانت تظن أن اللقاءات والاتصالات الفلسطينية الداخلية، مع التفاعلات العربية وحتى المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي على هامش التوصل لوقف النار وعقد اتفاقات التهدئة، ستدفع باتجاه وضع حد نهائي لمعاناة متواصلة، عنوانها الحصار والعزلة والانقسام، لذا ورغم الألم الذي يملأ صدرها، تظهر بعض علامات التفاؤل، بأن الدماء الغزيرة لم تذهب سدى.
للأسف الشديد، وكل مرة، خاصة بعد حربي 2008/ 2009، 2014 واللتين تبعتا بمؤتمرين دوليين للإعمار، تعهدت خلالهما كثير من الدول العربية والأجنبية بتقديم مليارات الدولارات لإعادة إعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية، سرعان ما يتبدد الأمل، وتعود مياه الحصار والمعاناة إلى سابق عهدها ويبقى الانقسام قائماً، بل ويعود بين فينة وأخرى التوتر بين حركتي فتح وحماس إلى مربعه الأول من خلال التراشق الإعلامي.
منذ ثلاثة أشهر، ورغم أن الحرب الثالثة على غزة، حدثت بعد إعلان الشاطئ وبعد تشكيل حكومة التوافق بين حماس وفتح، تراجعت قوة الدفع باتجاه إنهاء الانقسام، بعد أن لاحت بوادره في الأفق جراء تراجع جلي لحماس عن الانقسام، ومناطحة فتح رأساً برأس، على الأقل في المستوى المعلن والرسمي، نتيجة ما واجهته من عزلة وضيق جراء سقوط نظام الإخوان الحليف لها في مصر منتصف العام 2013، منذ أن أغلقت حماس الأبواب في وجه فتح لإحياء الذكرى العاشرة لرحيل ياسر عرفات، بعد تعرض بيوت قادة فتح في غزة لتفجيرات، لم تقم حركة حماس حتى اللحظة بالكشف عن مرتكبيها، والأمور تتدهور بين الحركتين.
هذه الحالة تتسبب عملياً في بث روح الإحباط والقنوط في نفوس المواطنين بشكل عام في قطاع غزة، خاصة عشرات الآلاف ممن دمرت بيوتهم، وأملوا في أن توفر لهم إعادة الإعمار بيوتاً يسكنون إليها مجدداً، كذلك فإن عودة التراشق الإعلامي، ومن ثم القطيعة السياسية بين فتح وحماس تحبط عشرات آلاف المواطنين ممن هم كانوا موظفين لحكومات حماس خلال سبع سنوات مضت، وبالتالي حتى البحث عن حل لمشكلتهم يتوقف في ظل هذه الحالة.
ومع استمرار الحصار، والذي اشتد خلال العام والنصف الماضيين، بسبب الأحداث الأمنية في سيناء وبالتالي إغلاق معبر رفح طوال الوقت، تحول قطاع غزة إلى طنجرة ضغط، قابلة للانفجار في أية لحظة، ورغم انه ليس هناك عنوان محدد لهذا الانفجار، بمعنى أن الناس لا تضع اللوم كله على جهة واحدة بعينها، وإلا لصبّت جام غضبها عليها، إلا أن ذلك يعني أن الانفجار يمكن أن يحدث دون أن يكون باتجاه جهة محددة، وهذا قد يكون اخطر أنواع أو أشكال الانفجارات، لأنه قد يطال الجميع في النهاية، وليس بالضرورة أن يقتصر عمن تبدأ أحداث الانفلات نحوهم.
عملياً يمكن لأي مراقب أن يرى ارتفاع منسوب التوتر والانفلات الأمني في غزة، والذي أخذ شكل وضع عبوات تحت عجلات سيارات لقادة وكوادر من فتح وغيرها وإحراقها، كذلك وضع عبوات أمام منازل بعض القياديين، كذلك إشعال بعض الحرائق هنا وهناك، ويبدو الأمر واحداً من احتمالين: إما أن حماس مضطرة أن تلعب بالنار وترسل رسائل حادة، بما في ذلك المسيرة المؤيدة لداعش قبل أسابيع، حتى وهي تعلم بأن هذه الرسائل قد تتحول إلى شرارة لإشعال الحريق، وإما أنها قد فقدت بعضا من السيطرة، جراء تباين وجهات النظر حتى داخل الحركة، أو نتيجة الاختلافات وتعرض بعض أعضائها للضائقة، خاصة أولئك الذين كانوا يعتمدون على الأنفاق لتمويل حضورهم وتأثيرهم، وما الحديث عن زيارة خالد مشعل لإيران واستعداد طهران لإعادة تمويل الحركة إلا سعي لتهدئة بعض كوادر وعناصر حماس الغاضبين جراء عدم تلقيهم رواتبهم، خاصة منتسبي الأجهزة الأمنية من التابعين لداخلية حماس/ فتحي حماد، وموظفي وزارات حكومتها السابقة.
تبقى الصورة ناقصة دون ترجيح الجهة الرئيسة التي تقف وراء سلسلة التفجيرات التي تهدف لتصعيد أجواء المواجهة الداخلية، ودفع غزة إما إلى الانفجار أو الاقتتال والتي تذكر بأجواء العامين 2004، 2005، حين شهدت غزة اغتيالات لبعض قادة وكوادر الأجهزة الأمنية والتي كانت مقدمة للاقتتال ومن ثم الحرب الداخلية والانقسام، فبعد أن رفضت حماس أو أنها لم تستجب لمطالبات فتح بالكشف عن مرتكبي وضع العبوات في منازل قادة فتح عشية ذكرى أبو عمار، وبعد أن حاول بعض ناطقي حماس القول إن الخلافات داخل فتح الدافع لهذه الأحداث، جاءت الاتهامات صريحة هذه الأيام لتتهم السلطة رسمياً بالوقوف وراء تلك التفجيرات!.
ما يسمى بوكيل وزارة الداخلية بغزة، كامل أبو ماضي قال: إن لديه معلومات تشير إلى أن أجهزة الضفة هي المسؤولة، ولمّح إلى أن توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة السابق ضليع بذلك، وقد ذهب بالاتجاه ذاته زياد الظاظا، نائب هنية في حكومة حماس المنحلة، وفي ذلك اتهام خطير للغاية لأنه أولا يتعامل مع أجهزة أمن السلطة، وهي التي يفترض بها أن تكون المسؤول الفعلي عن أمن غزة، ولكن حيث تمنعها حماس من ذلك، على أنها أجهزة معادية، أو على الأقل يرفض أن تكون المسؤولة عن امن القطاع، ثم ثانياً لأن الاتهام دون أي سند يؤكده، يجيء ضمن حالة التراشق الإعلامي التي كانت وما زالت واحدة من صواعق الانقسام، ودليلاً على أن حماس بذلك المنحى تصعّب كثيراً على محاولات العودة لطريق المصالحة، وتدفع بعملية فرض سلطة حكومة التوافق، بما في ذلك الجانب الأمني، لاختيار طريق وحيد وهو فرضها بالقوة العسكرية!