ربيع أسود ضد ترامب

حجم الخط

بقلم حافظ البرغوثي

ثمة ملاحظة جديرة بالذكر في خضم الأزمة الأمريكية الداخلية المستمرة، وهي أن رهاب «كورونا» تلاشى من الشارع الأمريكي، ومن البيت الأبيض، ولم نعد نرى التباعد الاجتماعي؛ بل التقارب في الشوارع والاحتجاجات، ولاحظنا أن البيت الأبيض خرج عن بروتوكولاته، وسار الرئيس ترامب خارج البيت الأبيض كأنما يرد على الاتهامات له بالاختباء في قبو محصن أثناء حصارالمتظاهرين للمقر الرئاسي، وهو هنا يقلد الكثير من الحكام الدكتاتوريين في استعراض رباطة جأشه من جهة، وعدم ايلاء احتياطات الجائحة الفيروسية أدنى اهتمام من جهة أخرى.

الرئيس الأمريكي يعيش أزمة غير مسبوقة مع حكام الولايات ومع أجهزته الأمنية، ومع أغلب دول العالم، ويبحث عن كبش فداء في المعمعان الداخلي، وهو يدرك أن الأزمة من اختراعه؛ لأنه أعاد الخطاب العنصري إلى الهيئات الرسمية، وفي الشارع، وضخ دماء التمييز في عروق التجمعات أوالمنظمات العنصرية للبيض، وأصحاب الأيديولوجية الدينية الإنجيلية الصهيونية؛ لكن أغلب المحتجين ضده كانوا من البيض الذين سئموا من فترة حكمه ومزاجه المتقلب المعادي لحرية الرأي ومباديء الديمقراطية. فالتمييز العنصري في الولايات، وعنف الشرطة ضد السود واللاتينيين بات ظاهرة ملموسة بقوة في المجتمع الأمريكي. وإلغاء العبودية من قبل ابراهام لينكولن لا يعني إلغاء العنصرية في مجتمع قام على أسس عنصرية استعمارية منذ بداياته، وكيف لا تكون ملموسة، والرئيس نفسه يدلي بخطابات وتغريدات عنصرية ضد السود والأقليات في بلاده وشعوب أخرى؛ بل كشفت جائحة فيروس كورونا عن أن التمييز العنصري في الخدمات والرعاية الاجتماعية والصحية لعبت كلها دوراً في تفشي الفيروس بين السود لنقص في المناعة لديهم؛ بسبب الإهمال الصحي. فكما نلاحظ فإن التمييز العنصري اجتماعياً وصحياً واقتصادياً في المجتمع الأمريكي، والعنف ضد السود باتت ظواهر ملحوظة؛ من خلال عشرات الحوادث من القتل بدم بارد، إضافة إلى وجود منظمات عنصرية؛ تؤمن بتفوق العرق الأبيض؛ حيث يمارس أعضاء هذه المنظمات العنف، ويرتكب بعضهم مجازر جماعية ضد السود كما حدث في كنيسة تشارلستون سنة 2017؛ عندما أقدم أحد نشطاء جماعة عنصرية إلى قتل عشرة أشخاص من السود.

تاريخياً كان السود أساس التنمية الاقتصادية للولايات المتحدة، وكان معظمهم يعيش في الجنوب، وشكلت بضعة آلاف من العائلات البيضاء برجوازية الملاك الزراعيين. وبالتالي فإن أغلب البيض من غير البرجوازيين لم يكن لديهم مصلحة مباشرة في استغلال السود؛ لكن الملاك الزراعيين كانوا يحرضون فقراء البيض ضد السود؛ بهدف تمكين الهيمنة عليهم.

عندما انتخب إبراهام لينكولن، في عام 1860، لم يعد بإلغاء العبودية؛ ولكنه كان معارضاً لتوسيع العبودية إلى غرب الولايات المتحدة، وبالتالي فإن انتخابه كان يهدد التوازن الفيدرالي. لهذا السبب انفصلت 11 ولاية جنوبية عن الاتحاد، فجاءت الحرب؛ بهدف المحافظة على الاتحاد، وليس لإلغاء العبودية. وللتمكن من الفوز بالحرب التي كانت نتيجتها متأرجحة، ذهب لينكولن إلى حد إلغاء العبودية في الولايات الانفصالية في عام 1863، مقوضاً بذلك اقتصاد الجنوب مع انضمام 200.000 من العبيد إلى جيش الاتحاد ورحيل 300.000 آخرين إلى الشمال. وبذلك أصبح إلغاء العبودية سلاحاً بيد الشمال، وهكذا فإن الحرب التي بدأت ضد الانفصال قد تحولت إلى معركة في سبيل تحرير العبيد.

لكن قوانين التمييز العنصري التي ظهرت لاحقاً أفقدت إلغاء العبودية مفعوله الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في الولايات المتحدة، فإن تلاشت العبودية ظل التمييز العنصري قائماً حتى بداية النضال من أجل إلغائه في خمسينات القرن الماضي، وتم إسقاطه في نهاية الستينات؛ لكنه بقي كامناً في نفوس كثير من البيض حتى يومنا هذا. وقد ظهرت نزعات انفصالية ذات طبيعة رأسمالية في العقود الأخيرة من قبل ولايات غنية تريد الانفصال عن الفيدرالية الامريكية، وهذا الحراك من الربيع الأسود الأمريكي قد يدعم التفكك الاتحادي الأمريكي. وكأن الرئيس ترامب يعيد التاريخ إلى الوراء، ويقوض الفيدرالية الأمريكية بعد قرون من إنشائها.