مصر التي نحبها (2 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

منذ العهد الأيوبي حتى خروج العثمانيين، توقفت مصر عن الإبداع الفكري والمادي، باستثناء محاولات "محمد علي" لبناء دولة عصرية، والتي دفع ثمنها ثلث الشعب المصري، حيث أجبر على العمل بنظام "السخرة".
مثّل مشروع "محمد علي" الطَموح سابقةً فريدة في الشرق، حيث كانت مصر حينها أول دولة عصرية في الإقليم، وبدأت تظهر فيها معالم الحداثة والتقدم، لم يتمثل ذلك في تجهيز بنية تحتية متطورة ونظيفة، أو في شق قناة السويس (التي ستغير معالم النظام الدولي)، بل في تكوّن نواة نخبة مثقفة، ذات توجه حداثي ليبرالي، أخذت تنافس وتحل محل الأزهر.
 لكن الثقافة الشعبية ومنذ العهد الفاطمي، أبدعت الكثير: المعمار الفاطمي، المشربيات، الأرابيسك، السبيل، التكية، زينة وفوانيس رمضان، مدفع الإفطار، المواسم الدينية، الأعياد الخاصة كشمّ النسيم، الموالد، الأفراح، التصوف، الحرف التقليدية، الألقاب، الأمثال الشعبية، بالإضافة للرقص الشرقي والنكات والأكلات المصرية الشهية، والحلويات المميزة كالبقلاوة.. فصارت تلك العناصر سمات خاصة بالثقافة الشعبية المصرية.. شرقية المظهر، عربية الملامح، إسلامية المحتوى، متسامحة، بسيطة، ولها جذورها الفرعونية.. لهجتها مهذبة، وعذبة، ولها روافد مختلفة اللغة في الصعيد والواحات والنوبة وسيناء.
في بدايات القرن العشرين كان الشيخ محمد عبده مفتي مصر، وهو شخصية معتدلة، ذو فكر متنور ونهج منفتح، فصار الفضاء الديني امتداداً لشخصيته؛ مرناً، متسامحاً، محلقاً.. والتدين الشعبي بسيطاً وفطرياً ونقياً، فظهرت كوكبة من العلماء والأدباء والفنانين والمفكرين شقوا بداية الطريق لنهضة مصرية كان يمكن لها أن تنتج الكثير.. 
ما عزز ذلك، تبلور طبقة أرستقراطية من بقايا الإقطاع، ذات تقاليد راسخة، لديها وسائل إنتاج وطنية، وطبقة وسطى عريضة متعلمة، ونظام سياسي وفّـرَ قدراً معقولاً من الأمن والحريات والازدهار الاقتصادي، رغم ما شابه من فساد وترف واستبداد، وهيمنة الإنجليز على مراكز صنع القرار.. انتهى هذا العهد الملكي بسلبياته وإيجابياته في ثورة يوليو 1952.
كان عبد الناصر أول مصري يحكم البلاد منذ ألفي سنة، فطوال هذه المدة كل الذين حكموا مصر لم يكونوا مصريين.. وهذه ليست السمة الوحيدة في تاريخ المصريين؛ فقد بدلوا ديانتهم ولغتهم ثلاث مرات على الأقل.. طيبة المصريين، وبساطتهم، وفقرهم، وبرتوكولاتهم الاجتماعية بمضامينها الطبقية.. عوامل موضوعية أثرت عميقاً في تشكيل التاريخ المصري.
وكما بالغ الناصريون في تشويه صورة العهد الملكي، بالغ الإسلاميون في تشويه صورة عبد الناصر وثورته، وقللوا من أهمية منجزاته.
لم تنحصر مآثر عبد الناصر في تأميم القناة، أو بناء السد العالي، أو القضاء على الإقطاع، ووعود بعدالة اجتماعية.. كانت في خطابه السياسي، رغم شعبويته، حيث استشعر كل عربي في زمنه بمعاني الفخار القومي، كانت خطاباته وأغاني أم كلثوم مطلع كل شهر أهم عنصرين في توحيد مشاعر العرب أجمعين.. وكانت مصر في مصاف الدول القوية، وذات دور إقليمي محوري.. لكن أخطاء عبد الناصر كانت مثل منجزاته؛ كبيرة..
رغم سياسات "السادات" الاقتصادية والاجتماعية، التي سماها "الانفتاح"، وكل ما نتج عنها من أزمات، إلا أن طعم الزمن الجميل كان ما زال ماثلا طوال عقد السبعينات، لكنها شكلت مقدمات للحقب التالية، التي اتسمت بالنكوص وتراجع مكانة مصر.. وستظل في انحدار مستمر طوال ثلاثة عقود من عهد مبارك..
ستقوم ثورة يناير، وستطيح بالرئيس المستبد، لكنها ستعجز عن إحداث التغيير المجتمعي والفكري كشرط أساسي لاستئناف النهوض من جديد، وستمر على البلاد فترة من الفوضى، ستنتهي بقدوم أول رئيس مدني منتخب "مرسي"، الذي سيحكم سنة واحدة، وسيقترف فيها من الأخطاء ما يكفي لاندلاع ثورة شعبية ضده، سيخطفها العسكر من جديد. 
عندما كانت قِبلة مصر المعرفية والثقافية باتجاه الشمال والغرب، ظهر أحمد شوقي، وطه حسين، وعباس العقاد، والمنفلوطي، والمازني، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وعبد الرحمن بدوي، ولطفي السيد، وعلي عبد الرازق.. وعندما تحولت صوب الشرق، تمثلت الفكر الوهّابي، فظهر محمد عمارة، وسليم العوا، والشيخ حسان، والشيخ كشك، وعمر عبد الرحمن، وزغلول النجار، ووجدي غنيم.
وهو "تطور" عكسي، كانت نتائجه نكوص الثقافة المصرية التقدمية والليبرالية المنفتحة على آفاق الأنسنة واستبدالها بثقافة متزمتة مغلقة.
وهي انتكاسة مماثلة لما ألمَّ بالإنتاج الفني والأدبي والسينمائي والمسرحي، ففي العقود الثمانية الأولى من القرن العشرين لم تتوقف مصر عن الإبداع بكل أنواعه، فظهرت أم كلثوم، وعبد الحليم، وعبد الوهاب، والأطرش، وشادية، وسعاد حسني، وأحمد زكي، ونور الشريف ونادية لطفي، وعشرات غيرهم.. لكنها بعد ذلك ستفقد قدرتها على تجديد مثل هؤلاء العباقرة.. ستظهر ما تعرف بالسينما النظيفة، وظاهرة الفنانات المعتزلات، والأغاني الشعبية الهابطة، وسيهبط سقف الحريات كثيراً، وستنشغل الحكومة ومعها المجتمع في محاكمات المفكرين وقتلهم، وتكفيرهم، ومطاردة المعارضين واعتقالهم، وسيصير التطرف الديني، والعشوائيات، والتحرش بالنساء السمات الجديدة للحياة اليومية المصرية.. وسيهبط مستوى الإعلام.
لكن مصر، ورغم كل ما أصابها تظل عصية على الكسر؛ تداولها الفاتحون والغزاة فابتلعتهم، دخلها العرب فقادتهم، تعاقب عليها الطغاة والمستبدون وظلت منارة إشراق وإبداع، أصيبت بالنكسة، فاجترحت العبور، وقّعت حكومتها "كامب ديفيد"، فرفض الشعب التطبيع، وحتى في أسوأ مراحلها قدمت "زويل"، وفاروق الباز"، و"مجدي يعقوب" و"مصطفى السيد".
مصر التي في خاطرنا هي الشيخ إمام، وفؤاد نجم، وأمل دنقل، والأبنودي، وعمر محجوب، وعبد المنعم رياض.. هي بليغ حمدي والنقشبندي وعبد الباسط، هي الأزهر ودار الهلال والمعارف ومدبولي، ومقهى الفيشاوي، والأزبكية، والحسين، والنادي الأهلي، وليالي الحلمية.. هي ابن البلد بخفة ظله، والصعيدي بسمرته وشموخه، هي عيون بهيّة، والعمال الكادحون.. هي التي أنتجت قبل كل البشر الأديان والشعر والأدب.
ذُكرت في القرآن مقترنة بالأمان، وبخزائن الأرض، وهي التي أُفرد لها عِلم خاص سمي "علم المصريات".. هي أرض الكنانة، والمحروسة، والشقيقة الكبرى لكل عربي.
يحتاج المصريون من أجل المستقبل ثورة فكرية وثقافية، تعيد بناء الإنسان المصري.