جمهورية الوهم!

حجم الخط

صبري صيدم يكتب

قررت الأسبوع الماضي قضاء جزء من الوقت في مراجعة التصريحات الصحافية الصادرة عن أركان الاحتلال الإسرائيلي، من جيش وحكومة، وصولاً إلى تصريحات جنرالات متقاعدين، وبعض المحللين السياسيين، بشأن تنفيذ إسرائيل لما عرف بصفقة العصر أو «سرقة القرن»، التي هندسها الصهاينة الجدد في أمريكا، بالتنسيق مع حكومة نتنياهو، وما أعلنته حكومة الاحتلال، عن نيتها ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية في الأول من يوليو/تموز المقبل، حسب زعمها كخطوة أولى لتنفيذ الضم المزعوم.

“خطواتنا ، يجب أن لا تنتظر الفعل حتى تكون بمثابة الرد عليه، بل خطوات محسوبة وموزونة لدرء الخطر قبل وقوعه”.

وقد قادتني هذه التصريحات إلى الاطلاع ومراجعة البيانات والتصريحات، التي عكست مواقف الدول قاطبة، بما فيها التصريحات الصادرة عن دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وصولاً إلى بعض المواقف، التي نسبت للإدارة الأمريكية بزعمها الطلب من إسرائيل تأجيل تنفيذ خطة الضم. وقد هدف الكثير من هذه التصريحات إلى طمأنة الفلسطينيين، عبر إعطاء الانطباع بأن الضم لن يمر، وأنه سيخضع للتأجيل والتجميد والمراجعة. وقد أثارت هذه التصريحات فضولاً ذاتياً لديّ لمراجعة التصريحات التي واكبت مراحل تاريخية مفصلية في حياة أمتنا العربية، وقضية الكون الازلية قضية فلسطين، للتحقق من حالة التفاؤل المزعوم. فعدت بالتاريخ إلى النكبة والنكسة وحروب الاستنزاف، وأكتوبر/تشرين الأول، والاجتياح الإسرائيلي للبنان، وحروب الخليج الثلاث، بما فيها سقوط بغداد، وغيرها المزيد، حتى عثرت وفي كل محطة على سلسلة من التصريحات التطمينية، التي أصرت على أنه لا حرب مقبلة ولا زلازل سياسية على وشك الوقوع إطلاقاً. وهو ما قادني لاسترجاع الخطاب العربي المغالي في التفاؤل، والمفرط في التهويل، فعدت إدراجي لسماع تسجيلات أحمد سعيد، وتصريحات الصحاف وغيرهما، إضافة إلى مراجعة سلسلة من عناوين الصحف التي واكبت المحطات المذكورة.

خلاصة الجهد كانت واضحة وضوح الشمس، فما شهدناه ونشهده اليوم، ما هو إلا إعادة إنتاج جمهورية الوهم والكذب والخداع والنفاق، التي صاحبت جميع المراحل والانتكاسات المذكورة، وساهمت في خلق حالة الطمأنينة بغرض إقناع الذات بأن أمراً جللاً لن يقع، وأن الأمور لا تدعو للقلق إطلاقاً، بحيث يتقاعس الجميع في أداء دورهم، لتحل بعدها الكارثة، ويحصل ما لا يحمد عقباه ليتم إثره تجريعنا الانكسار والهزيمة. فالضم يا أحبة مقبل، لا محالة، ولن يوقفه لا تصريح ولا تلميح، بل معجزة ربانية أو مفاجأة من مفاجآت هذا العام – عام المستحيلات 2020! وعليه فلا مجال للسكينة، وتمنين النفس بأن مشروع الضم لن يحدث، ولا مجال للتعويل على خسارة ترامب في الانتخابات المقبلة، لأنه رغم مصائب الأسابيع الماضية، وما نجم عن مقتل المواطن الأمريكي جورج فلويد، إلا أنه – أي ترامب سيعود وفق المعطيات المتوفرة، ولا داعي لبيع الأوهام وتجارة التطمينات واختراع الأكاذيب.

جمهورية الوهم ما هي إلا مسرحية تتكرر مع كل محنة سياسية تعيشها فلسطين والعالم العربي، أبطالها مجموعة مجترة من الأكاذيب والأخبار المضللة والوعود الملفقة والتطمينات المفبركة، التي تطيح جميعها بأحلام العربي وآماله وكرامته وكرامة أبنائه، ممن انتظروا النصر والفرج، فما وجدوا إلا الهزيمة والذل والانكسار، ليصبح المواطن العربي الضحية المتجددة في عالم العنتريات والأكاذيب. فلسطين ليست للبيع وكرامتنا ليست للاتجار، لكن الأرض والوطن لن يحررا بالأمنيات العالمية وما يقوده البعض من أوهام وأكاذيب وخطب نارية وشعارات رنانة وبطولات ورقية وكلمات متكلسة وتجارة الوهم. لذا فإن خطواتنا وخطوات العالم، أياً كانت، يجب أن لا تنتظر الفعل حتى تكون بمثابة الرد عليه، بل خطوات محسوبة وموزونة لدرء الخطر قبل وقوعه.