سجال فلسطيني حول ما تبقى من منظمة التحرير

حجم الخط

عدلي صادق يكتب

عاد الفلسطينيون إلى سجالهم القديم – الجديد، حول منظمة التحرير الفلسطينية ومشروعية تمثيلها للشعب الفلسطيني. كان محمود الزهار، القيادي من حماس، هو الذي بدأ السجال بطريقته النافرة التي تعوّد عليها الفلسطينيون، وباتت موضع سخريتهم.

أشعل الرجل السجال، بهجوم على “المنظمة” استتبع ردودًا مستنكرة. لقد انطلق الزهار من فرضيتين، يعرف هو وحركة حماس أنهما خاطئتين. الأولى، أن هذه “المنظمة” موجودة فيزيائيًّا وفعالة، وأن بالإمكان، وضع الخيط الذي يفصل بينها وبين السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة.

والفرضية الثانية أن لهذه “المنظمة”، المفترض خطأً أنها فعالة، سياقا وسلوكا، يستدعيان أن يعاينهما محمود الزهار لكي يحكم على هذه “المنظمة”.

غير أن الأمر في حقيقته لا يتعلق براهن منظمة التحرير، وقد استحالت بلا حيثيات، إذ انتقلت الغالبية العظمى من مضامينها إلى سلطة الحكم الذاتي المحدود. فالقصد الحمساوي أو “الإخواني” يتعلق بتاريخ منظمة التحرير الفلسطينية، وبمشروعيتها الدولية، التي حازت عليها في ذروة صعودها، قبل أن تتلاشى كإدارات اختصاص وجسم تنظيمي وإطار سياسي، يتبعهما “جيش تحرير”.

اليوم، لم يتبق من تلك الإدارات سوى القليل الذي يغطي نظريّا مسائل تخص فلسطينيي مخيمات الجوار العربي. فقد تحول “جيش التحرير” إلى قوة أمنية تحت الاحتلال، وتحول الصندوق القومي الفلسطيني إلى جهاز محاسبي في العاصمة الأردنية، ينتظر مخصصاته الشهرية من “وزارة” مالية السلطة.

معنى ذلك، أن المقصود مما تحدث به القيادي الحمساوي محمود الزهار، وأعطى به إشارة بدء السجال الفلسطيني الداخلي حول “المنظمة” يتعلق حصرًا بتاريخ هذا الكيان الذي عرفه العالم، كممثل حصري، شرعي ووحيد، للشعب الفلسطيني.

هبّ منتسبو الفصائل الأخرى للدفاع عن “المنظمة” بمقاصد موضوعية تعني الدفاع عن تاريخها، لاسيما وأن الطرف الذي يهاجمها لم يكن ممن التحقوا بإطارها في زمن الكفاح المسلح.

لم تكن جماعة “الإخوان” معنية بالالتحاق، شأنها في ذلك شأن “حزب التحرير الإسلامي”، ولم يكن أمام هذين الحزبين أي عائق لكي يلتحقا، عندما كانت فصائل المنظمة الرئيسة في ذروة كفاحها المسلح.

وكان “الإخوان” حاضرين في الأردن، ومقرهم الرسمي موجود منذ أيام الملك عبدالله الأول، وأيضاً حيث لم تكن هناك -وقتها- أية قضية خلافية، حول المدى الذي تتطلع حركة التحرر الفلسطينية إلى الوصول إليه، في معركتها مع الاحتلال الإسرائيلي. بل لم تكن هناك أية قضية خلافية، تتعلق باشتراطات أيديولوجية.

لم يتوقف الأمر عند الإشارة بلسان محمود الزهار، الذي هاجم “المنظمة” وكان يقصد تاريخها؛ فقد جاء بعده آخرون، من قادة “حماس” استكملوا فكرة الهجوم، مع تغيير في الصياغة، لكي تصبح “حماس” في موقع المطالبة بـ”إصلاح” منظمة التحرير. علمًا أن فكرة الإصلاح قديمة، كان أول من بدأ بطرحها منذ مستهل عقد السبعينات، الدكتور جورج حبش، أمين عام “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” آنذاك.

ظل “الحكيم” يطالب بـ”الإصلاح الديمقراطي” لمنظمة التحرير. وأيامها كانت “المنظمة” هي الإطار الجامع والقوي، ولا مشكلة في المطالبة بتطويرها أو إصلاحها. فما الذي تريده “حماس” اليوم وهي تقتسم السلطة مع السلطة وتحكم في غزة، بعد أن فارقت منطلقاتها الأولى؟

مثلها مثل قيادة المنظمة، بدأت “حماس” بشعارات، ثم اصطدمت بوقائع. وكلا الطرفين، بعد الاصطدام، لم يقدم الأنموذج السياسي المستنير ببعده الاجتماعي، بل لم يكن قادرًا على ضبط تصرفه ولغته وإدارته، على النحو الذي يليق بشعب فلسطين وقضيته.

لا يختلف اثنان، لاسيما في غزة، على أن “حماس” لم تسجل لصالحها نجاحًا في الحكم، ولا قدمت أنموذج السلطة المتخلقة بمبادئ إسلامية، وهذا أقل ما توصف به انطباعات المواطنين عن تجربتها، وقد أصابتهم بكل أنواع البؤس وانسداد الآفاق، والاستبداد.

كل شيء، أو كل فكرة استخدمتها للرواج فعلت عكسها: بدأت ضد التسوية، وأصبحت معها وتنتظرها بصيغ أردأ، ولا علاقة لها بالأمنيات الوطنية وبالديمقراطية. بل لا يزعجها أن يظل الانقسام إلى الأبد لكي تحكم شأنها في ذلك شأن محمود عباس.

بدأت بشعارات انتخابية تطالب الشعب بالتمكين “للمسلم القوي الأمين” فاستحالت سلطة ريعية تمتص المجتمع، ويضرب “القوي الأمين” الناس بالكرابيج، وتنشأ في أكنافه طبقة متربحين وأثرياء. فما هو إذًا، القصد من الهجوم على تاريخ منظمة التحرير في هذا الوقت الذي بات الفلسطينيون فيه، أحوج ما يكونون إلى الوحدة؟

إن للشرارة التي أطلقها الزهار غرضًا واحدًا، وهو محاولة الحصول على مشروعية “المنظمة” بذريعة أنها في حاجة إلى إصلاح. ولعل ما يدعو إلى السخرية في هذا المنطق، أن الزهار الذي انفردت حركته بحكم غزة، يتحدث عن منظمة التحرير باعتبارها ذات سمعة سيئة، وهو يعلم أن سلطته، ولأسباب موضوعية، هي الأجدر بالهجاء من سواها، والأولى بتحسين سمعتها.

هذا المنطق، على فجاجته، أقل عُرضة للأسئلة من منطق إسماعيل هنية، الذي بادر إلى طلب إصلاح “المنظمة” التي لا يعلم أين سيجدها، ودون أن يبدأ هو أولاً بإصلاح نفسه وإصلاح حُكم حماس. فالأجدر البدء بإصلاح الموجود الفعال الذي يمارس السلطة منفردًا، ويفرض نفسه على غزة، وليس “المنظمة” التي لا يعرف أحد أين تبدأ وأين تنتهي.

ربما أرادت جماعة “الإخوان” في فضائها التركي القطري، أن يستحوذ فرعها الفلسطيني على منظمة التحرير، تحت عنوان إصلاحها، للاستفادة من مشروعيتها الدولية. فجماعة “الإخوان” ليست محظورة في عواصم الغرب والشرق، وبخاصة بريطانيا صديقتها التقليدية.

بخلاف هذا الافتراض، لا معنى في الواقع للقول إن الإصلاح المرتجى هو ذلك الذي يتحقق عن طريق ما يسمى “برنامج المقاومة”. لنفترض أن هذا هو ما تريده الجماعة، وأنها لا تراوغ، فكيف يمكن إعادة جسم “المنظمة” الذي بُني ومضى في مسيرته على مدى نصف قرن في الخارج؟

وما هو البلد العربي الذي يمكن أن يستضيف منظمة التحرير، بجيشها وإداراتها، في هذه الظروف الإقليمية والدولية؟ وهل “المنظمة” حقيبة دولارات ينقلها سفير قطر، محمد العمادي، من الدوحة إلى غزة، عبر إسرائيل، فتصل آمنة؟ بل أي إصلاح هذا ولأي وضع، إن لم يكن وضع  منظمة التحرير قائمًا أصلاً؟

لماذا تصر الطبقة السياسية الفلسطينية، في غزة ورام الله، على الاستمرار في بيع الأوهام، بدل التمكين للإرادة الشعبية، والتصرف بنزاهة وشرف، لكي يعرف الشعب الفلسطيني كيف يتلمس طريقه لنيل التحرر من الاحتلال.

هؤلاء يريدون أن يظلوا هم القادة في كل المراحل، ورغمًا عن الناس، وأن يكونوا هم أصحاب الحق الحصري في رسم خرائط الطرق، دون أن يفلحوا في رسم خارطة طريق واحدة.