بعد 20 سنة في منصبه، طبيب العيون المتعلم يقوم بأكثر من مجرد القتل

حجم الخط

هآرتس – بقلم تسفي برئيل –

في هذا الشهر يمكن أن تفرض الولايات المتحدة على سوريا الوجبة الاكثر ايلاما من العقوبات في اطار “قانون قيصر” الذي تم سنه في كانون الاول 2019. قيصر هو لقب ضابط سابق في الشرطة السورية، الذي قام في الاعوام 2013 – 2015 بالتقاط آلاف الصور في السجون والمستشفيات في سوريا والتي اثبتت جرائم الحرب التي نفذها النظام. صور دقيقة جدا لاعضاء محطمة، اعضاء جنسية تم التنكيل بها وجثث مشوهة عانت من تعذيب شديد وتم تنزيلها على الحاسوب الشخصي لقيصر، الذي نجح في الفرار الى اوروبا، ونشرها في ارجاء العالم.

​قيصر يحافظ بشدة على أن يبقى مجهول، لكن صوره الصادمة جعلت الكونغرس الامريكي يقوم بصياغة قانون هدفه وقف القتل في سوريا. الضابط شهد امام الكونغرس في العام 2014، لكن فقط بعد خمس سنوات صادق الكونغرس على القانون. هو يشبه في جوهره قوانين العقوبات التي فرضت على ايران وشملت فرض عقوبات على أي شخص، شركة أو دولة، تتاجر أو تساعد بأي وسيلة اخرى، النظام في سوريا.

​القانون يحدد سبعة معايير لرفع العقوبات. وهي تشمل ضمن معايير اخرى وقف استخدام المجال الجوي لسوريا للمس بالمدنيين، سواء من قبل سلاح الجو السوري أو سلاح الجو الروسي؛ مناطق مسيطر عليها من قبل سوريا وروسيا وايران ستكون مفتوحة لنقل المساعدات الانسانية؛ سوريا ستطلق سراح جميع السجناء السياسيين؛ القوات السورية والروسية وقوات اخرى لن تقصف العيادات والمستشفيات؛ النظام في سوريا يجب عليه أن يقوم بخطوات قانونية ضد من نفذ جرائم حرب؛ المزيد من عودة اللاجئين وأن يتم تعويض المواطنين عن موت اقاربهم. هذا جزء مفصل جدا يشمل جميع النشاطات الاقتصادية والعسكرية ليس فقط لسوريا، بل لايران وروسيا ايضا. وليس من الواضح كيف تنوي الولايات المتحدة اجبار روسيا وايران على التمسك ببنود القانون، وهل تنوي فرض المزيد من العقوبات على ايران وروسيا في الوقت الذي تجري فيه واشنطن مفاوضات مع روسيا حول مستقبل ليبيا وتحاول التوصل معها الى الازمة في سوريا. يمكن التقدير بأن روسيا وايران لن تتأثرا اكثر من اللازم من المحظورات والعقوبات التي يفرضها القانون، في حين النظام السوري، الواقع اصلا تحت نير عقوبات شديدة، حيث أن الاضافة الجديدة لا يتوقع أن تغير بصورة جوهرية وضع الاقتصاد. واشنطن اوضحت أن المحافظات الكردية في شمال سوريا ستكون غير خاضعة للعقوبات، لكن هذه المحافظات تقوم بالاتجار بصورة متشعبة مع النظام السوري: هم يبيعون له النفط والقمح ومنتوجات زراعية اخرى. بصورة متناقضة، القانون لا يتطرق الى تركيا التي احتلت اجزاء من شمال سوريا وتشرف هي وروسيا على المناطق الآمنة في شمال سوريا. ضد تركيا سمعت في الاشهر الاخيرة ادعاءات قاسية بشأن المس بالمدنيين الاكراد في مدينة عفرين المحتلة، وضد المليشيات التي تعمل في خدمة الاتراك.

 

​لا يوجد منتجات

​إن نجاعة وقوة “قانون قيصر” ما زالت تنتظر الاثبات على الارض. ولكن الولايات المتحدة تهدد باعادة تفعيل العقوبات الدولية التي فرضت على ايران والتي رفعت في اعقاب التوقيع على الاتفاق النووي في 2015. الامر الذي يمكن أن يشعل هذه العملية هو انتهاء الحظر العسكري الذي فرض على ايران كجزء من الاتفاق النووي، الذي بحسبه ايران لا يمكنها شراء أو بيع سلاح تقليدي مدة خمس سنوات، منذ تاريخ التوقيع على الاتفاق، وهي فترة ستصل نهايتها في تشرين الاول القادم. دول اوروبا وروسيا والصين الموقعة على الاتفاق وعلى بند الحظر تعارض تمديده. بناء على ذلك تهدد الولايات المتحدة بتفعيل البند في الاتفاق الذي ينص على اعادة العقوبات الدولية (سناب باك) في حالة أن ايران خرقت الاتفاق النووي. ايران حقا خرقت علنا الاتفاق – بعد سنة من انسحاب الولايات المتحدة منه – ولكن بسبب أن الولايات المتحدة لم تعد شريكة في الاتفاق فان التفسير المقبول يقول إن امريكا لا يمكنها المطالبة بتفعيل بند العقوبات طبقا للاتفاق التي هي نفسها تخلت عنه بصورة أحادية الجانب.

​سياسة العقوبات الامريكية لم تنجح حتى الآن في أن تثمر النتائج السياسية التي طمحت اليها. ولم تغير ايران وسوريا سياستهما. ففيها الانظمة تواصل الوجود وادارة حروبها رغم الصعوبات الاقتصادية الضخمة، وبالنسبة لهما فان أي من انظمة العقوبات لا تطالب باستبدال النظام. النظرية تقول إنه من اجل أن تنجح العقوبات، يجب عليها التوضيح للانظمة بأنها لا تستطيع مواصلة ادارة سياستها والبقاء في السلطة دون الاستجابة لطلبات فارضي العقوبات. عقوبات ناجحة تستهدف اثارة عصيان مدني ضد النظام أو جعله يخاف عصيان كهذا اذا لم يقم بتغيير طريقه.

​في هاتين الدولتين هذا التهديد لا يعمل – مثلما لم يعمل طوال اكثر من 12 سنة فرضت فيها العقوبات على العراق. بعد تسع سنوات على الحرب التي جاءت من خلال العصيان المدني الاكثر قتلا الذي عرفته الدول العربية، فان نظام الاسد اعاد لنفسه السيطرة على معظم اجزاء الدولة وهو نفسه معترف به في معظم دول العالم باعتباره الخيار الواقعي الوحيد لادارة الدولة. في ايران رغم الاحتجاجات والمظاهرات فان النظام لا ينوي تغيير وجهه. وللمفارقة، العقوبات الامريكية خلقت ادوات مشتركة بين ايران وسوريا فيها كل واحدة منهما ملزمة بالتمسك بسياستها من اجل منع سقوط الاخرى والصمود امام العقوبات الامريكية.

​بالنسبة للاسد هذه تجربة جديدة في ادارة العلاقات الدولية. مرحلة اخرى في تطوره السريع كزعيم تم طرده من الجامعة العربية وفقد السيطرة المباشرة في لبنان ووجد نفسه في لعبة قاسية بين الدول العظمى وبقي الزعيم الوحيد الذي لم يتم عزله كجزء من ثورة الربيع العربي. يمكن التقدير بأن والده كان سيكون فخور به.

​هذا الاسبوع قبل عشرين سنة، في 10 تموز 2000، وبعد شهر من خروج الجيش الاسرائيلي من لبنان، اهتز الشرق الاوسط من نبأ وفاة حافظ الاسد. هذا لم يكن مفاجئا. الزعيم الذي حكم سوريا حوالي ثلاثين سنة، بدأ قبل بضع سنوات من وفاته في اعداد بلاده للزعيم الذي سيرثه، بعد أن عانى من عدة نوبات قلبية. في 1994 استدعى من لندن ابنه بشار الذي كان يتخصص في طب العيون وبدأ في اعداده كوريث له. بشار لم يكن الخيار الاول للأب. هذا الدور أعده حافظ لابنه باسل، الشاب المفعم بالنشاط، والذي كان يحب السيارات السريعة والحياة الرغيدة. ولكن بعد موته في حادثة طرق بقي بشار، عديم التجربة السياسية والعسكرية، الخيار الوحيد. كان ذلك اعداد سريع، الذي جعل الابن يقفز بسرعة في الرتب العسكرية، رغم أن عمره كان 34 سنة، وبهذا فهو أقل بست سنوات من العمر الذي نص عليه الدستور كي يتولى منصب الرئيس، تم تغيير الدستور طبقا لذلك وتحول الى الرئيس الاكثر شبابا في الشرق الاوسط.

​بعد شهر على موت والده أدى اليمين، وفي الانتخابات التي جرت في نفس السنة حظي بفوز ساحق ومعروف مسبقا بنسبة 97.27 في المئة من الاصوات. الشاب طويل القامة الذي عاد من لندن، تحول في فترة قصيرة الى أمل سوريا والشرق الاوسط. وقد وجد نفسه في صداقة مع شابين ورثا العرش من والديهم قبل ذلك بسنة، وهما عبد الله، ملك الاردن الذي توج في 1999، ومحمد السادس ملك المغرب الذي توج في تموز 1999، بالضبط قبل سنة من تتويج الاسد.

​ربيع دمشق

​بعد عشرين سنة تبدو فترة ولاية الاسد الاولى كاسطورة. رغم أنه احيط بكبار الضباط القدامى وكان يعتمد تماما على نصائح اجهزة المخابرات والسياسة السورية، فقد قرر أن يبدأ بالحوار العام ويسمح بوجود صالونات سياسية ونشر مقالات انتقادية حول طريقة ادارة نظام الحكم واشعل الأمل في أن سوريا في عهده ستصبح دولة جديدة ومنفتحة ومزدهرة اقتصاديا، تمد يديها ليس فقط الى دول الغرب، بل ايضا الى ثقافة الغرب.

​على المنصة العامة ظهر مثقفون ليبراليون مثل ميشيل كيلو والاقتصادي عارف دليلة والمفكر برهان غليون ورياض سيف وآخرين كثيرين تعاملوا بجدية مع المناخ النقي الذي ضخه الاسد للدولة وصدقوا أن سوريا عادت الى ماضيها البعيد، قبل حكم حزب البعث، وأنه سيكون للمثقفين مكان محترم في تشكيل صورتها.

​ولكن “ربيع دمشق”، كما لقبت تلك الفترة القصيرة، انتهى خلال عدة اسابيع. “الاجهزة” اوضحت للرئيس الشاب بأن البنية الحاكمة ستتحطم، ورأس المال العائلي سيختفي والنظام “الصحيح” سينتهي اذا واصل اليساريون والليبراليون بطرح افكار ديمقراطية. كما أنه لم ينقصه ايضا تهديدات بانقلاب عسكري للي ذراعه والتوضيح له بأن سوريا ليست بريطانيا. وأن النخبة السياسية والعسكرية والاقتصادية لا تنوي التنازل عن مكانتها وعن المكاسب التي حققتها في عهد والده. الصالونات اغلقت والكثير من المثقفين اعتقلوا وعدد منهم حكموا بفترات سجن بتهمة “المس بالنظام العام”، في حين أن آخرين غادروا البلاد الى الخارج وأدوات الحكم التي استخدمها والده عاد الابن لاستخدامها.

​من بين الزعماء الشباب الثلاثة الجدد الذين صعدوا الى قمة السلطة في دولهم، كان الاسد هو الاكثر قسوة، حتى قبل العصيان المدني في آذار 2011 الذي أدى حتى الآن الى موت اكثر من نصف مليون شخص والى تهجير اكثر من سبعة ملايين مواطن. بعد عشرين سنة على الحكم التي في نصفها كان مشغول في الحرب ضد مواطنيه، فان طبيب العيون المهذب ليس فقط يواصل قتل من يعالجهم. فقد خلق حوله حزام امن استراتيجي تشارك فيه ايران وروسيا، كل واحدة لاسبابها الخاصة، في الوقت الذي يبقي فيه الولايات المتحدة التي يقودها ترامب خارج اللعبة ومع رزم عقوبات سيدفع ثمنها المواطنون.