حنين وذكريات

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

لم أنقطع عن سماع الأغاني الطربية ومشاهدة الأفلام منذ أن وعيت على الدنيا، باستثناء مرحلة المراهقة.. قبل أيام، استسلمنا (أنا وزوجتي خلود) لسهرة كلثومية رائعة، امتدت لساعات متواصلة، استمعنا لمقاطع مختارة لكوكب الشرق، أعادتني لذكريات بعيدة، رغبتُ أن أشارككم إياها.
سأعود بكم إلى بداية الثمانينيات، كنتُ حينها في المرحلة الثانوية، وبالطبع لم نكن وقتذاك نعرف الإنترنت، ولا شبكات التواصل الاجتماعي.. كان التلفزيون والراديو الوسيلتين الوحيدتين للتسلية وسماع الأغاني ومشاهدة المسلسلات والأفلام.. وكنت قد بدأت أدخل طور الشباب، وأتعرف على شخصيتي وعالمي الجواني.. وكان قد مضى أكثر من سنة على مغادرتي جماعة الإخوان المسلمين.. بعد أن أنهيت ثلاث سنوات من علاقتي المضطربة مع نفسي، في فترة تكوّن الهرمونات وبدء النضوج النفسي والعقلي.. وهي الفترة التي قضيتها عضوا نشطا مع "الإخوان"، وبهذا التحول، أو التحرر، شعرت بانطلاقة فجائية نحو عالم جديد، وواسع، ومدهش، ينطوي على كل الاحتمالات.
تركت "الإخوان"، وبقيت مؤمنا ومتدينا، لكني تحررت من أغلب التابوهات التي كانت الجماعة تقيدني بها.
ذات مرة، وفي مشوار طويل في "الباص"، كنت أشاهد المدى المفتوح من الشباك، بينما أم كلثوم تغني "دارت الأيام"، سحرتني موسيقاها، وتملكني صوتها الشجي، ولكم أن تتخيلوا متعة اكتشاف صوت أم كلثوم، لأول مرة، بعد حرمان سنوات من سماع أي موسيقى.. عدت مرة ثانية إلى سنوات الطفولة، حين كان الراديو يصدح بالأغاني الجميلة في أجواء البيت، وتذكرت إنني استمعت لـ"قارئة الفنجان" للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، عندما بثت مباشرة لأول مرة.
كانت إذاعة عمّان، وإذاعة إسرائيل باللغة العربية تبثان أغنية كاملة لأم كلثوم يوميا، ضمن مواقيت محددة، وصرت أحرص على سماعها كل يوم، حتى أنني اشتريت راديو ترانزستور صغيرا، أحمله معي قبيل الغروب، أخرج بصحبة بعض الأصدقاء، فنجلس في مكان مطلٍ بين أشجار الزيتون، ونشعل نارنا، ونستمع بكل جوارحنا. 
حفظتُ جميع أغانيها، وكنت إذا سمعت مقطعا قصيرا لأي أغنية أعرف على الفور اسمها، ومؤلف كلماتها، وملحنها، وأتذكر الأجواء التي استمعت إليها أول مرة.. وكلما ازداد حبي لأم كلثوم، شعرت بالرضا عن نفسي لمغادرتي "الإخوان".. وكنت أتساءل مستغربا: كيف ولماذا يحرّمون علينا سماع الموسيقى؟!
لم أكن وحدي مولعا بأم كلثوم، جميع أصدقائي كانوا كذلك، بل وربما كل جيلنا، والأجيال التي سبقتنا.. كانت محور أحاديثنا، ونكهة سهراتنا.. وذات مرة، جاءني صديقي "آرام"، في وقت "الفرصة" بعد الحصة الثالثة، وقال لي سنعود الآن إلى البيت، لأسمعك مقطعا رهيبا من أغنية "للصبر حدود".. لم أتردد بقبول طلبه.
عندما اكتشفت "من أجل عينيك" أعدت سماعها سبع مرات متواصلة، أما "لسه فاكر" فكنت كلما خطرت ببالي أترك كل شيء، وأشغل الكاسيت لسماعها.. أما "هذه ليلتي" فكانت تأخذني في رحلة حالمة، أحلق بها في أقاصي الفضاء.
وسرعان ما اكتشفنا عبد الحليم، وأغانيه الطربية، الأقرب إلى روح الشباب، كنتُ وما زلت مأخوذا برائعته الخالدة "حاول تفتكرني"؛ موسيقى غنية، تبدأ بموال شجي، ثم يتهادى صوت العندليب بلحن حنون، وهو ينطق بكلمة "حبيبي"، فيلوّعها ويشبعها نشيجاً يخترق الفؤاد، يمدها مَدة قصيرة بقلب مرتجف، ولهان، فيستخرج من أعماقه ما دفن من عواطف، ثم يكمل: "والله لسه حبيبي"، ثم يعيدها خطفا في المقطع اللاحق بطريقة مختلفة، لا تقل روعة وعبقرية: "حبيبي، مهما شوئي يطول".. 
كانت تلك الأغاني مليئة بالشجن، والحنين، والدموع، والعتاب، وعذابات المحبين، مع أنني لم أكن قد تعذبت بالحب، ولم أختبر غدر الزمان، ولا وجع الفراق.. ومع ذلك كنا نسمعها، فتهز مشاعرنا، وترتب أرواحنا وتعيد هندستها بشكل جديد.
في ذلك العمر المبكر، فترة الدهشة والانبهار بالاكتشافات الأولى، كانت متعتي الذهاب إلى عمّان، إلى وسط البلد، أتسكع في أزقتها، وأسواقها العتيقة، وفي ذهني ثلاثة أشياء مركزية: شراء كاسيت لأم كلثوم (بنصف دينار)، وآخر إصدار للشياطين الـ13، أو للمغامرين الخمسة، أو أي كتاب آخر.. ثم تمضية نصف النهار في سينما الحمرا، أو ريفولي أو الخيام... وأحيانا أجوب شارع الطلياني بحثا عن حذاء رياضي "مستعمل"، من ماركة مشهورة.. أغلب تلك الأشياء كانت محرمة علينا في فترة "الإخوان"، بالإضافة للرياضة، سواء متابعة المباريات، أو ممارستها، إلا في إطار الجماعة، وضمن شروطها الخاصة. 
بدأت أمارس الرياضة بنشاط محموم، صرت بارعا في كرة السلة، وصرت أرتدي "الشورت" دون خجل.
بعد الموسيقى والسينما والرياضة، صار عليّ أن أكمل عالمي الجديد، وأتوّجه بما هو أجمل: الفتيات، وأن أجرب الحب، وخفق القلب.. كنا بعد انتهاء المدرسة، نقف قبالة سور مدرسة البنات الثانوية، فيختار كلٌ منا فتاته، يلحقها، فإذا وجد منها تجاوبا، تبدأ بينهما قصة حب.. قصص بريئة وساذجة، ليس فيها أي تحرش أو ابتزاز، تدور حول تبادل الرسائل الورقية المعطرة، التي كانت تفيض بالعواطف، وأشعار نزار قباني، ومقاطع من أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم.. كان هذا الحب ضروريا لإشعال فتيل الحياة في قلبٍ بكر و"خام"، وجعل الدم يتدفق في شرايين تتفتح على عوالم جديدة، وإشباع عيون شرهة تبحث عن معاني الجمال في كل مكان.
كان هذا الحب، كما هي الموسيقى، والقراءة، ضروريا لشاب جائع للحياة، وعلى وشك الاشتباك مع العالم الخارجي الكبير، الذي سيحسن الظن به بداية، ثم سيخيب أمله، وعلى وشك التعرف على مشاعره وعالمه الداخلي، ليسبره مزودا بغذاء روحي شفاف، فيرتبه على نحو أنيق، وجميل، وأكثر رقة.. وليرى العالم بقلب عاشق، ووجدانٍ نبيل.
ليست كل الاكتشافات حسنة؛ فقد تعلمتُ التدخين وقتذاك، وهي العادة التي ندمت عليها كثيرا.. وبالمناسبة، كان "الإخوان"، متشددين في منع هذه العادة السيئة، لكننا رغم ذلك، كنا نخرج بعد صلاة المغرب إلى أحد البيوت، ونظل ندخن خفية حتى موعد صلاة العشاء. 
أشفق على الجيل الحالي، الذي لم يختبر أغاني الزمن الجميل، ولم يتعلق قلبه بنجوم الأفلام العربية، ولكني أدرك بأن لكل زمان دولة ورجالا، وأن العالم بأسره تغير.. فأحاول أن أجسّر بين زماننا والزمن الحاضر، عندما نخرج بالسيارة مع الأولاد، أشغل أغاني وردة، وفيروز، ونجاة، وعبد الوهاب، وهاني شاكر.. لعلها تلامس أرواحهم.