رسالة السفير العتيبة لإسرائيل وخلفيات أصدائها

حجم الخط

عدلي صادق يكتب

ما إن يُرى أي ملمـح ذي صلة بإسرائيل، في سياسة دولة الإمارات وحركتها في الإقليم، حتى يهجم الإعلام التركي القطري لتأثيم الإمارات والحديث عنها وكأنها تسببت في فض عذرية السياسات العربية والإسلامية.

وفي كل مرة، يتبدى الهجوم فاقداً للمنطق، على الأقل من خلال التجاوز عن حقيقة أن كل ملمح قد سبقته – تركيّاً وقطريّاً – الألوف من أضعافه، أما في المقاصد، فلا مجال للمقارنة بين علاقات طبيعية وتعاون أمني وعسكري وتجاري قديم وعلني، وبين طائرة شحن طارئة، تحط على أرض مطار إسرائيلي محملة بشحنة مساعدات طبية للفلسطينيين.

من دواعي السخرية، أن يكون هبوط هكذا طائرة، إماراتية أو مستأجرة إماراتيا (كما حدث في المرة الأولى) في مطار بن غوريون؛ هزة كبرى ومثار استهجان، بينما يظل أمراً طبيعياً وحميداً ومبعث اعتزاز، أن يتردد دبلوماسي قطري إلى تل أبيب، وأن يحظى بمزايا لوجستية غير مسبوقة في العلاقات الدولية وفي العمل الدبلوماسي، وأن ينقل أكداساً من النقد الأميركي إلى حماس في غزة!

كذلك، فإن هجوم الإعلام التركي على دولة الإمارات بسبب طائرة تحمل معونة طبية، يصبح نوعاً من الاستهبال والسخافة، بحكم تزامن شحنة المعونة الطبية، مع افتتاح خط شحن إسرائيلي إلى أميركا عبر اسطنبول. هنا يرى حتى البسطاء، أن الأمر لا يعدو كونه نوعاً من التمحك الصبياني. وهذا جزء مما كان لافتاً قبل رسالة السفير يوسف العتيبة.

وجه العتيبة رسالة للإسرائيليين يوم 12 يونيو 2020. ورأى أن مكان النشر الصحيح، الذي يضمن وصول الرسالة إلى عنوانها، هو الصحيفة الإسرائيلية الأكثر توزيعاً، وهي “يديعوت أحرونوت” اليمينية، وليس “هآرتس” المصنفة يساراً أو “إسرائيل هايوم” المحسوبة على نتنياهو، أو نيويورك تايمز الأمريكية.

كان هناك تركيز إماراتي على ضرورة وصول الرسالة إلى الجمهور الإسرائيلي، والموضوع كله علني ومباشر وواضح في مقاصده ولا غموض فيه ولا مجاهل، والرسالة واضحة، وردود الأفعال الإسرائيلية السلبية عليها أوضح وأبلغ، بل وأوقح بلسان متطرفين، هاجموا دولة الإمارات في سياستها وفي ثقافة مجتمعها، بالقدر نفسه من الضراوة التركية – القطرية.

معلوم أن جوهر فحوى رسالة العتيبة، هو قرع الجرس لنتنياهو لكي يتوقف عن تنفيذ فكرة ضم أجزاء من أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة. والموقف الذي حملته الرسالة، يشرح تداعيات الضم ويذكر بالبنود الواردة في مبادرة السلام العربية دون أن يذكرها بالاسم، إذ جاء في الرسالة “إن الضم والتطبيع أمران متناقضان، وإذا أصرت إسرائيل على خطتها فإنها ستقلب كل توقعاتها لتحسين العلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية مع العالم العربي، وفي طليعته الإمارات”!

من جانبه، صرح الوزير أنور قرقاش، مؤكداً على هذا الموقف قائلاً “إن خطة ضم الأراضي الفلسطينية، يجب أن تتوقف” وإن “أي خطوة إسرائيلية أحادية الجانب، ستكون انتكاسة خطيرة لعملية السلام، لأنها تُقوض حق تقرير المصير للفلسطينيين، وتشكل رفضاً للإجماع الدولي والعربي على الاستقرار والسلام”!

لننظر هنا في الموقف ونتأمله. فما هو الزائد في موقف تركيا بخصوص موضوع الضم، إن لم يكن هناك الكثير الناقص، ومنه سعي تركيا الآن للانضمام إلى مجموعة “منتدى غاز الشرق الأوسط” EMGF الذي تشارك فيه مع إسرائيل، مصر واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية. فللانضمام إلى هذا المنتدى شروط ومبادئ عامة، تسعى تركياإلى تلبيتها والتجاوز عن اتهامات لها بممارسات إقصائية ضد أقليات وقصف منطقة للأيزيديين في العراق والتطهير العرقي للأكراد، وممارسات ضد اليونان، وكل ذلك في ظل التدخل العسكري المباشر ضد أربع دول. على قاعدة القبول بالمبادئ العامة، التي يُشترط على تركيا القبول بها.

بينما هذا يحدث، يحاول الأتراك تضليل الرأي العام في الإقليم، بالتركيز على لقطات صغيرة لمقاصد وحسابات هامشية. فليس العيب في طائرة شحن مدنية، تنقل مواد طبية للفلسطينيين، وإنما في طائرات شحن عسكري قطرية، تنقل الشباب المعوزين السوريين من اسطنبول إلى طرابلس لكي يقاتلوا كمرتزقة في ليبيا، وفي معارك لا يختلف الفقهاء على تصنيفها بأنها اقتتال بين مسلمين، تصر عليه الفئة التي تزعم أن لديها مشروع إسلامي!

صحيح أن رسالة العتيبة لم تلجأ إلى مفردات الخطابة العربية التقليدية، لأنها جاءت أصلاً في سياق عمل دبلوماسي؛ لكن الصحيح أيضاً والأهم، أن الأتراك لا يحثون على الثورة في فلسطين ولا يحثون على المقاومة أو حتى على الانتفاضة الشعبية، ولا يسمحون لذوي خطاب المقاومة المسلحة، أن يتواجدوا على الأراضي التركية، فلماذا وبأية ذريعة تكون المزاودة إذا؟

ومن المفارقات الطريفة، أن الصيغة الناصحة والسلسة في رسالة العتيبة، لا تزال لغتها أو مقاصدها تقع في قلب منطق الدبلوماسية التركية والقطرية والعربية عموماً. فهي محاولة جذب إسرائيل إلى مناقشات بناءة حول مجمل العملية السياسية المرتجاة، للتوصل إلى حل يساعد على الاستقرار في المنطقة.

لكن مشكلة أردوغان، أنه يريد الشيء ونقيضه. ففي فلسطين يريد إنجازاً صغيراً بحجم حجرة، في مساحة حرم الأقصى من داخلها، بالتفاهم مع إسرائيل، ومن حول فلسطين يحلم بإمبراطورية عثمانية شاسعة.

وفي الآونة الأخيرة، ركز النظام التركي على زيارة رئيس الوزراء اليوناني لإسرائيل احتفاء بمناسبة مرور 30 سنة على اعتراف أبيه كونستانتينوس ميتسوتاكيس بالدولة العبرية في العام 1990. فقد شعر الأردوغانيون بالغبن لأن المناسبة تنطوي على حيثيات استخراجية من الغاز، بينما، عدنان مندريس، جد الإسلام السياسي التركي المعاصر، اعترف بإسرائيل قبل 60 سنة، أي أسبق من اعتراف المسيحي ميتسوتاكيس بثلاثين سنة أخرى.

للأسف تنقسم الظاهرة السياسية في الإقليم وسائر العالم العربي، وفي الموضوع الإسرائيلي تحديداً، إلى عدة خطوط. من بين هذه الخطوط، التعاون الخفي المقترن دائماً بكلام هجائي سطحي، لا يقلق إسرائيل، وهذا نمط استخدمته بريطانيا من قديم – حسب ما كشفت الوثائق – إذ كانت تحض عملاءها على ممارسة الهجاء ضدها، لكي تحافظ على مكانتهم في محيطهم، بينما “المفيد” يتحقق بمعرفة المخابرات البريطانية.

وهناك خط سلبي قوامه النأي بالنفس، وفي هذا نوعان من الهرب: الأول إظهار التطرف، وخطاب الطنين والزلازل، والثاني بالكف تماماً عن النطق سلباً أو إيجاباً. أما الخط الذي يمكن أن يحاول، مع دولة يحكمها أشباه نتنياهو؛ فيرى من الضرورة بمكان، الخوض في المسائل بشكل عملي، دون أن يعني ذلك أن الصداقة تأسست مع إسرائيل.

فخطة الضم – مثلاً – تتضمن عدة عناصر محتملة، كل منها له سياقه المنفصل. ربما يلجأ نتنياهو تحت الضغط، إلى تجزئة الخطة، بحيث يُصار إلى ضم “معاليه أدوميم” التي يوحي اسمها بأنها محض مستوطنة، بينما هي مقص ضخم يقطع الضفة من وسطها إذ يبدأ في محيط القدس وينتهي عند البحر الميت، وتتسع انفتاحته لتصل إلى بيت لحم والخليل، على أن يصار بعدئذ إلى وضع غور الأردن ضمن حدود السيادة الإسرائيلية.

الهجوم الإسرائيلي شديد الضراوة، والحال العربية مشتتة بمنطق الاجتماع السياسي. مصر والأردن والإمارات (والسعودية إن أرادت) يمكنها مجتمعة أن تفتح خطاً لدبلوماسية قوية وفعالة، وأكثر قدرة على إقناع الجانب الإسرائيلي بمخاطر الاندفاع إلى الضم وإلى تكريس أمر واقع، من شأنه إدامة الصراع.

*عدلي صادق  –  كاتب وسياسي فلسطيني