حروب المياه 10 : سد النهضة الإثيوبي .. وتسدد القنوات

حجم الخط

السفير ملحم مسعود يكتب

كان من المفروض أن تكون هذه المقالة العاشرة و الأخيرة في سلسلة مقالات الموقع ( حروب المياه ) لكنها لن تكون الأخيرة , في محاولة مستمرة منَا لتغطية التطورات والمستجدات وإنعكاساتها على المنطقة .

نكتب على وقع طبول الحرب … الحرب التي لا يريدها احد , وتاتي مقالتنا اليوم في سياق آخر مستجدات الأزمة والمستمرة منذ قرابة عشر سنوات ومازالت فصولها مستمرة بالإجتماعات , وربما الأخيرة خلال الساعات القادمة  اليوم أو غدا في سباق مارثوني غير مسبوق , كان لا بد من ذلك , وأهمها بدأت في نوفمبر من العام الماضي في واشنطن برعاية أميركية، وبحضور مندوبين عن البنك الدولي . وكان الواضح منذ بدايتها أن الملف يتحرك فعلاً، فقطع الأطراف الثلاثة خطوات فعلية في طريق الوصول لاتفاق، فلما جاءت جلسة التوقيع النهائية بدايات هذه السنة، تغيب الطرف الإثيوبي عن حضورها من دون مقدمات، وكان ذلك من دواعي الدهشة والشك معاً، فلا شيء مطلقاً كان يدعوه للغياب .في الوقت الذي كان من الواضح أن مصر تستخدم كل الوسائل للوصول إلى حلول ومخارج سلمية للأزمة المستمرة منذ سنوات , مع بلد تتساقط عليه الأمطار في المتوسط 936 مليار متر مكعب سنويا لا يستفيد من معظمها بسبب طبيعته الجغرافية … وهي الطبيعة نفسها التي منحت مصر بعض امطارهاوهذه التي صنعت حضارتها   . 

وكان آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي قد إستبق  اجتماعات الأمس قائلا: “ إن العنف الداخلي الذي تشهده البلاد “لن يثني إثيوبيا عن تنفيذ خطتها للبدء في ملء خزان سد النهضة”، وذلك رغم معارضة دولتي المصب، مصر والسودان، لهذه الخطوة قبل التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن السد مع إثيوبيا … وأشار إلى الإضطرابات والعنف الداخلي التي عمت البلاد وادت إلى عشرات القتلى بعدإغتيال المطرب الشعبي هونديسا لن تثني إثيوبيا عن تنفيذ خطتها للبدأ في ملء حزان سد النهضة , ولم يحدد في تصريحاته الجهة التي يرى انها وراء تلك ” المؤامرة “

وأضاف كما تعودنا في تصريحاته المستمرة : “لن نضر بمصر وسنبدأ ملء خزان النهضة للإستفادة من موسم الأمطار الغزيرة … وخلافاتنا مع مصر حول فترة التشغيل لملء السد سيحل في البيت الأفريقي، وهو الذي يسعى عن شرعية دولية وقانونية لسد ضخم مخالف لكل الأعراف الدولية لسدود دولة منبع وليس دولة مصب .

من جهته قال وزير الري المصري د. محمد عبدالعاطى إن «المفاوضات ما زالت جارية حتى 11 يوليو الجاري، و(لو في ربع في المائة أمل، نحن وراءه لآخر مدى سوف نتفاوض)، وإنه من المبكر، الحديث حول ما سيتم من إجراءات حال فشل المفاوضات»، مؤكداً أن «مصر لديها رغبة سياسية للوصول إلى اتفاق حول السد، آملاً في أن تمتلك إثيوبيا نفس تلك الإرادة»، مضيفاً أن «أي كمية مياه سيتم ملء (سد النهضة) بها ستقلل من نسبة المياه الخارجة من حدود إثيوبيا باتجاه مصر، وهو ما يتسبب في حدوث جفاف صناعي نتيجة حجز المياه في السد»، لافتاً إلى أنه «لو صاحب هذا الجفاف الصناعي جفاف طبيعي، فستحدث أزمة كبيرة لمصر، لذا تسعى مصر للوصول لاتفاق حول (فترات الجفاف)».

أما هاني رسلان الخبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية قال إن  المباحثات الحالية تنتهى بنهاية الأسبوع أو مطلع الأسبوع المقبل على أقصى تقدير  وعقب ذلك لكل حادث حديث.

وإذا تجاوزنا الكلام عن مخاطر بناء السد وإحتمالات حدوث إنهيارات وتصدعات  ، فإن الخطر الأكثر واقعية هو إمكانية تأثر كميات المياه خلال فترة ملء وتشغيل السد الذي سيحجز بعد اكتماله نحو 74 مليار متر مكعب من المياه، لهذا السبب يصر السودان ومصر على ضرورة عدم القيام بأي إجراءات أحادية قبل التوصل إلى اتفاق بين الأطراف الثلاثة، ويريدان الاتفاق على جدول وبرنامج ملء بحيرة السد.

والجدير بالذكر إن إثيوبيا لم تخاطب بشكل جلي ومتفهم، المخاوف المشروعة للطرفين الآخرين وخاصة مصر التي تعتبر السد «خطراً وجودياً يهدد مصدر الحياة الوحيد لها » وهو نهر النيل. وبسبب مشاعر عدم الثقة التي نمت بين القاهرة وأديس أبابا فإن هذه الأخيرة بدأت ترى أن مصر تريد حرمانها من حقها في التنمية. ولعل ما يدور في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم يعكس روح العداء التي تنامت بشكل غير مريح. بل إن الأمور وصلت إلى حد تحذير رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قبل أيام من أنهم مستعدون للحرب.

وتمخضت هذه الإجتماعات التي  كان معظمها ثنائية، يوم امس الأربعاء، بين كل دولة على حده مع المراقبين والخبراء عن البيان التالي :

“خلال الاجتماع قام الوفد المصري باستعراض رؤيته بخصوص النقاط الخلافية بين الدول الثلاث في المسارين الفني والقانوني، وخاصة عدم معالجة إجراءات مجابهة فترات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات شحيحة الإيراد خلال كل من الملء والتشغيل، بالإضافة إلى قواعد إعادة الملء بعد فترات الجفاف الممتد، وكذلك قواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، المشروعات المستقبلية على النيل الأزرق و المعالجة القانونية لها، الاتفاقيات القائمة و عدم المساس بها، آلية فض النزاعات، والتي رفضت إثيوبيا تضمينها في الاتفاق مع تمسكها بالانفراد بتغيير قواعد التشغيل بطريقة أحادية وبإرادة منفردة وقد ظلت هذه النقاط محل خلافات إلوقال المتحدث باسم وزارة الري المصرية إن الخلافات مازالت قائمة مع إثيوبيا على المسارين القانوني والفني  ويدور الخلاف حاليا حول قواعد ملء السد خلال سنوات الجفاف، والجفاف الممتد، والسنوات شحيحة المياه، وإعادة ملء بحيرة السد عقب هذه السنوات.

وتطالب مصر بإدراج منحنى التشغيل السنوي للسد إلى اتفاق سد النهضة، وبضرورة تبادل المعلومات، وترى أن إثيوبيا لا تزال تتمسك بالانفراد بقواعد التشغيل الآن”.

هنا لا بد من التذكير بالعلاقات المصرية الإثيوبية … “ الطيبة ” … التي صنعها وصاغها جمال عبد الناصر والإمبراطور هيلاسلاسي , علاقات ومصالح متبادلة ومتوازنة ومتعايشة , خلقتأجواء من الثقة والتعاون بين البلدين أدرك خلالها الطرفان فوائدها واهميتها وإنعكاسات ذلك على البلدين و على مستوى القارة الأفريقية التي كانت دولها حديثة الإستقلال .

وبقليل من المراجعة نتذكر كيف إهتزت هذه الصيغة وحل محلها الشك وعدم الثقة بين البلدين  …  في الوقت ذاته كانت هناك إسرائيل  (تعبث)  في الحديقة الخلفية لمصر الأفريقية , وتسميم سياسات هذه الدول الحديثة مع مصر وشعبها  , وخصوصا دول حوض النيل … وخصوصية أثيوبيا والنيل الأزرق بشكل خاص الذي تشكل مياهه الآتية من الهضبة الإثيوبية وقبل  لقائه بالنيل الأبيض في مدينة الخرطوم قرابة  85 % من مياه نهر النيل الذي صنع الحضارة والحضور البشري حول مجراه وكدولة مصب جعل منها قضية وجود … لا جدال فيها … وكانت محاولة إغتيال الرئيس المصري في اديس ابابا قد زادت الطين بلة … وبلبلة جعل الإنكماش المصري بعيدا عن طبيعته الأفريقية .  

أخيرا هل حالة العناد والمراوغة التي إتبعتها إثيوبيا ( بلد الإثنيات  … واللغات … و التناقضات ) في مفاوضات جدية وصريحة مع مصرحول سد النهضة من البداية , ولا أريد أن اقول أن إستغلالها لظروف مصر الداخلية … وقد  ينسى البعض في أفريقيا وغيرها ما معنى ان تكون مصر بلد قوي ليس عسكريا فقط  بل إجتماعيا وعلميا وثقافيا … ليست بالتبسيط الذي يتناول به البعض، وليست قضية عواطف بل مصالح حيوية استراتيجية تمس حياة ملايين البشر في الدول الثلاث المعنية.

العواطف خربت كثيرا , والحالة العربية – العربية خير مثال، إن الصراع والحرب لا يمكن أن يكونا أبداً طريقاً لحل الأزمة القائمة حول سد النهضة. لغة المصالح وتلمس الفوائد المشتركة وتنميتها هي المدخل للحل، من دون إهمال المخاطر وبحثها، لا لإثارة العراقيل بل لإيجاد الحلول والتطمينات , لقد ضاع زمن طويل، بالنظر إلى أن مشروع بناء سد النهضة الذي انطلق في 2011.

لو كان استغل في البحث عن الفوائد وربط المصالح، لربما وجدت أرضية مشتركة ساعدت في إزالة الشكوك، وبناء الثقة، وحل أي خلافات قد تنشأ في مشروع ضخم كهذا يمس بشكل مباشر مصالح حيوية للدول الثلاث المعنية ونحو 250 مليون نسمة هم مجموع سكانها تقريب … هنا أتساءل أين صوت التضامن  العربي , لا سيما عن ما يحكى من رؤوس اموال ساهمت في المشروع … بإستثناء البيان الذي صدر يوم 30 يونيو (حزيران) عن جلسة مجلس الوزراء السعودي، برئاسة الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي دعا فيه إلى عدم اتخاذ أي إجراء أحادي يضر بمصلحة أي طرف، ثم دعا إلى توافر النية الحسنة، من أجل الوصول لاتفاق عادل يحفظ حقوق الأطراف كافة. ولكن البيان كان قبل أن يطلق هذه الدعوة المزدوجة قد قال في سطوره الأولى، إن الأمن المائي لكل من مصر والسودان جزء لا يتجزأ من الأمن العربي , بإختصار هل هناك تضامن عربي في معركة وجود تخوضها اليوم مصر .

إن الأنظار هذه الساعات متوجهة إلى مصر التي يزورها رئيس إرتيريا وما يحمل في جعبته , بعد زيارته لإثيوبيا والسودان  … وما سوف تتمخض عنه الإجتماعات الدائرة على قدم وساق لإنقاذ مايمكن إنقاذه.