مأساة عالِم نبات

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

في أواخر عهد روسيا القيصرية، وفي أحد أحياء موسكو الفقيرة، وُلد في أسرة محبة للعلم أربعة أطفال، سيصيرون من كبار العلماء، أحدهم سيتولى رئاسة الأكاديمية السوفيتية للفيزياء، وآخر سيترأس الأكاديمية الزراعية لعموم الاتحاد السوفياتي؛ هو بطل قصتنا، بروفيسور العلوم الطبيعية: «نيكولاي فافيلوف».
كان «فافيلوف» منذ صغره شغوفا بعلوم الطبيعة والنباتات، تخصص في علم الوراثة والجينات، وصار أستاذا في كلية الزراعة في جامعة ساراتوف عام 1917. العام الذي سيشهد الثورة البلشفية. تدرج في المناصب العلمية والإدارية، فترأس معهد الزراعة التجريبية، ثم أصبح رئيسا لمعهد النبات العام، ثم عضوا في أكاديمية العلوم السوفياتية.
كانت أولى إنجازاته العلمية الكشف عن أسباب العدوى الجماعية التي أصابت الجنود الروس في إيران، حيث اكتشف فطراً ساماً في الخبز الإيراني في ذلك الحين، فأوصى بعدم تناوله، الأمر الذي أوقف انتشار العدوى القاتلة، وبالتالي إنقاذ حياة آلاف الجنود.
شمل نشاطه فروعا علمية عديدة كالجغرافيا وعلم النبات والوراثة، ووضع الأسس العلمية لنظرية «أصل النبات»، ونظرية «حصانة النباتات»، ومن أوائل من تحدث عن «التنوع الحيوي»، أما إنجازه الأهم فهو جمع أكبر مجموعة من البذور في العالم، بلغت نحو ربع مليون بذرة من شتى أصناف النباتات، شكلت النواة لأول بنك للبذور والجينات في العالم. وقد جمع هذه البذور أثناء رحلاته العلمية التي جاب خلالها العديد من مناطق العالم، وكان يتعمد جمع البذور من المناطق البعيدة والخطرة، والمعزولة، إذ كان يؤمن بأن الزراعة لم تقتصر تاريخيا على ضفاف الأنهار، بل في المناطق الجبلية والوعرة، لأنها كانت أكثر أمانا في وجه الغزوات واللصوص.
اجتمع بالزعيم السوفياتي ستالين عدة مرات، إلا أن لقاءهما الأخير كان باردا وأنبأ بالويلات، وهذا ما سيسرده علينا عالم الفضاء الأميركي الشهير «نيل تايسون»، في برنامجه «الكون»، والذي تبثه قناة «ناشيونال جيوغرافيك»؛ قصة درامية لعالم عبقري انتهت بمأساة. 
لطالما عانت روسيا القيصرية من المجاعات الفظيعة، التي كانت تودي بحياة الملايين بين فترة وأخرى، وتلك المجاعات لم تتوقف في العهد السوفييتي، بل صارت أسوأ.. كانت القيادة تعبر عن قلقها وتخوفها من تلك المجاعات، وقد طلبت من علمائها إعداد الخطط العلمية الكفيلة بالحد منها.. رغم أن تلك القيادة تسببت بأفظع مجاعة في التاريخ، في أوكرانيا أواخر الثلاثينيات، حين صادرت محاصيل الفلاحين، وصدرتها للخارج، تاركة الملايين منهم يموتون جوعا.
اقترح فافيلوف على القيادة السياسية خطته لإنقاذ البلاد من شبح المجاعة، بالاعتماد على علوم الوراثة لإنتاج أصناف جديدة مقاومة للآفات.. فوافقت على خطته، كما وافقت على إنشاء بنك للبذور في ليننغراد، فجمع فافيلوف مجموعة من خيرة علماء الاتحاد، وبدؤوا بالعمل.. لكن شهر العسل هذا لم يدم طويلاً..
كان ليسينكو أحد زملاء فافيلوف في مجال الزراعة، لكنه كان متملقاً للقيادة، ولديه طموح طاغ للوصول، ولو على حساب الآخرين.. وكانت المنظومة الأمنية والاجتماعية السائدة آنذاك بيئة صالحة لأمثاله للصعود.
استطاع أن يصل إلى ستالين ويقنعه أن لديه خطة محكمة لمنع المجاعة، بل ومضاعفة إنتاج الاتحاد السوفييتي لمحاصيله الزراعية.. وتقضي خطته بنقع بذور القمح في الماء الثلجي، ثم زراعتها، فتتمكن من مقاومة الصقيع.. ثم همس في أذنه بأن علماء المعهد الزراعي يتبعون أوهاماً أسمها «الجينات»، ويعتمدون على علوم زائفة أسسها «دارون»، و»مندل».. وأنَّ فافيلوف وزملاءه يتعمدون تجويع البلاد، من أجل تركيع الاتحاد السوفييتي، وأنهم خونة للحزب، ويعملون لصالح دول معادية.
لم تتأخر القيادة الأمنية عن ملاحقة فافيلوف؛ فالبلاد كانت في أوج الحرب العالمية الثانية، وتتهددها مجاعة رهيبة، خاصة في ليننغراد، التي قضى فيها 800 ألف إنسان جوعا، عدا عن الملايين الآخرين الذي قتلتهم الحرب.
في العام 1940، وبينما كان فافيلوف في ذروة عطائه العلمي، وفي خضم أبحاثه، داهمته قوة أمنية وهو في الحقل، ويجري تجاربه التي كانت ستنقذ البلاد، وستوفر لها أمنها الغذائي. 
خضع لاستجواب قاس، على مدار 400 جلسة تحقيق، كانت الجلسة الواحد تمتد لعشر ساعات أحيانا، والتهمة خيانة الحزب، والتجسس، والتعمد بالتسبب بمجاعة.. بعد عام من التحقيق، تم نفيه إلى معتقلات السخرة في سيبيريا، ثم أعيد للسجن، وحكم عليه بالإعدام.. لكن السلطات لم تعدمه بالرصاص، بل تركته في زنزانته يتضور جوعا إلى أن انهار جسده ومات.
في تلك الأثناء، كان زملاؤه يواصلون عملهم وأبحاثهم على البذور التي جمعها في بنك البذور في ليننغراد، وكانت المدينة تئن تحت وطأة حصار القوات النازية، الذي دام ثلاث سنوات، وتتعرض لأفظع وأقسى ما يمكن أن تتعرض له مدينة من أهوال، وتهديم، وقتل، وتجويع.. ولو علم الأهالي أن «بنك البذور» يحتوي على أطنان من بذور القمح والأرز والشوفان وغيرها، لهاجموه، وأكلوها كلها، ففي تلك الأجواء كان الناس مستعدين لالتهام أي شيء.
حافظ علماء البنك على كنزهم الثمين (البذور التي جمعها فافيلوف)، بل إنهم رفضوا تناول أي شيء منها، وبعد أن كان حصتهم اليومية التي تأتي من الجيش مقدارها رغيفان لكل عالم، صارت تتقلص تدريجيا، إلى أن توقفت كليا.. ومع ذلك، لم يغادر العلماء معهدهم، وظلوا يتضورون جوعاً، حتى هزلت أجسادهم، ثم انهارت كلياً، إلى أن ماتوا جميعاً وهم في مختبراتهم، دون أن تنقص من بذور البنك حبة أرز واحدة. 
ما صبّرهم في محنتهم تمسكهم بالأمل بأن العالَم سيعود إلى رشده، وستنتهي الحرب، وستنتصر بلادهم، وعندها سيكون بنك البذور أمل الأجيال اللاحقة في التخلص من المجاعات.
 بعد انتهاء الحرب بعشر سنوات، أعلنت المحكمة السوفياتية العليا إلغاء الحكم الصادر بحق فافيلوف، وأعادت له الاعتبار. ولكن بعد فوات الأوان..
مأساة فافيلوف تشبه مأساة عالم الرياضيات البريطاني ألان تيورنغ مؤسس علم الحاسوب، كلاهما قتلته أنظمة بوليسية، لم تقدر عبقريتهما، بل إنها لم تكن تقدر الإنسان أساساً.
كما قتلت الأنظمة الشمولية عشرات العلماء من قبلهم، ومن بعدهم، وهؤلاء كان بوسعهم تغيير مجرى التاريخ الإنساني للأفضل، وجريمتهم أنهم لم يكونوا جزءاً من المنظومة الحاكمة. 
تلك الأنظمة التي كانت تقمع كل صوت لا ينسجم مع عقليتها الأمنية المستبدة.