الخيمة برميل بارود: مأساة المخيمات بين البحر والجوع

aac57ec2b3ab917b9541a226e90c25eb.jpeg
حجم الخط

بقلم مصطفى إبراهيم

بقلم مصطفى إبراهيم

 

 يسود مخيمات الخيام ظلام دامس، يخيّم عليه سكون ثقيل ورتابة مريبة، وصمتٌ قاتل لا يقطعه سوى تمتمات خافتة، قد تكون أحاديث شخصية، أو شكاوى متعبة، تتخللها أحيانًا أصواتٌ عالية تنفجر فجأة، كأنها صرخاتٌ مكبوتة تبحث عن مهرب.

تحت هذا السكون الظاهري، يقيم قهرٌ طويل الأمد، لا ملامح لنهايته في الأفق. معاناة متجذّرة لا تتوقف، كأنها قدر كُتب على هؤلاء الناس، لا فكاك منه. الحياة هنا معتمة، بسوادٍ مخيف، كأنها قبور بلا أنوار. شعور بانطفاء الحياة، وانعدام الأمل، لا يبدده سوى فوانيس خافتة بالكاد تضيء، كأنها تتضامن بصمت مع سكان هذه العتمة.

في منطقة مواصي خان يونس، على الساحل الجنوبي لقطاع غزة، حيث يلتقي البحر الأبيض المتوسط بخيام نصبت بأراضي اللاجئين، يتجلى مشهد من التناقض الصارخ: جمال الطبيعة في مقابل قسوة الواقع. من بعيد، قد تبدو المنطقة لوحة شاعرية، بنسمات الخريف تداعب الرمال، وغروب الشمس يلون السماء بألوان ذهبية. ولكن، خلف هذا الجمال، تختبئ مأساة إنسانية عميقة.

حين أتجول في أزقة مخيم الخيام، تعود بي الذاكرة إلى مخيم الشابورة في رفح. نفس الحارات، ونفس الروائح، ونفس المشاهد. وكأن التاريخ يعيد نفسه بصورة مشوهة ومؤلمة؛ جيلٌ جديد يعيش نكبة آبائه وأجداده، لكن هذه المرة في القرن الواحد والعشرين، تحت ذات السماء وبنفس الشعور بالخذلان.

الخيام هنا ليست مجرد مأوى مؤقت، بل جروح مفتوحة على جسد الأرض المتعبة. تمتد آلاف الخيام كشبكة من الأوجاع التي تعكس واقع الحصار، والخوف، والجوع. لا كهرباء، ولا مياه نظيفة، ولا خدمات صحية. الحرّ في النهار يحرق، والبرد في الليل يلسع عظام الأطفال. وفي الخلفية، لا تغيب أصوات الانفجارات، ولا تتوقف طائرات الاستطلاع التي تحوم ليلًا نهارًا، تراقب وتطارد، كأنها ظلال للموت لا تعرف الرحمة.

الإقامة في الخيمة ليست مجرد حالة نزوح مؤقت، بل هي أشبه بالإقامة فوق برميل بارود. الحرارة اللاهبة، والضيق الخانق، وانعدام الخصوصية، تجعل من الحياة داخل الخيمة تجربة يومية من الضغط النفسي والجسدي المتصاعد. هذه الخيام، برغم بساطتها، تختزن في جدرانها القماشية كل أشكال المعاناة، وتكاد تنفجر—لا بالمعنى المادي، بل بالمعنى الرمزي. وكأن كل خيمة تحمل في داخلها قنبلة صامتة من الغضب، والحزن، والخذلان، تنتظر لحظة الانفجار.

من على سطح بناية مرتفعة مطلة على شاطئ خان يونس، يشاهد الناس فوانيس مضيئة في سماء مدينة غزة، تبعد نحو 20 كيلومترًا. تُلقيها طائرات الاحتلال، لا لتضيء، بل لتُحدد أهداف القصف. هذه ليست أضواء عشوائية، بل استراتيجية ممنهجة لإدارة الموت وتوسيع الدمار، بحيث يبقى سكان المخيمات تحت تهديد مستمر.

ما يحدث هنا في الجنوب هو امتداد لما جرى في غزة. في المدينة، سيطر الاحتلال على أكثر من 70٪ من مساحتها، ودفع الناس جنوبًا، قسرًا وقهرًا، إلى مخيمات باتت ساحات نزوح مفتوحة، تفتقد الحد الأدنى من مقومات الحياة.

القصف ليس وحده ما يفتك بالناس، بل يرافقه استغلال اقتصادي بشع. تفكك النسيج الاجتماعي، وتحوّل النازحون إلى فريسة لبعض التجار وأصحاب البيوت، الذين يطالبون بمبالغ خيالية مقابل سكن مؤقت، في وقت لا يجد فيه معظم الناس ما يسدّ رمقهم. أكثر من 90٪ من سكان هذه المخيمات يعانون من الفقر والبطالة، ويعيشون على مساعدات لا تسمن ولا تغني.

هذا الاستغلال ليس صدفة، بل جزء من منظومة تدمير شاملة تستهدف المجتمع من الداخل. يحاول الاحتلال تفكيك الفلسطينيين إلى أفراد معزولين، يتصارعون على الفتات، ويبحثون عن مأوى ولو على حساب بعضهم البعض.

لكن، رغم ذلك، لا تزال شموع الأمل ترفض أن تنطفئ. الناس هنا تعبّر عن صمودها ليس بالشعارات، بل بالصبر والإصرار على البقاء. وإن كان بعضهم قد بدأ يرفض توصيف "الصمود"، احتجاجًا على من يطالبونهم بتحمّل ما لا يُطاق، إلا أن وجودهم اليومي في قلب الموت هو بحد ذاته فعل مقاومة لا يُمكن إنكاره.

في مواصي خان يونس، التي تستقبل عشرات آلاف النازحين الذين هجّرتهم آلة الحرب الإسرائيلية، لا يزال الناس متمسكين بحقهم في الحياة، والكرامة، والعودة. الاحتلال قد يقتل، ويهجّر، ويدمّر، لكنه لا يستطيع محو الذاكرة، ولا دفن الحقيقة.

في قلب هذا الظلام والسكون تعلو أصوات الفرح من خلال البحث عن مساحات للأمل والإصرار على البقاء والشعور أننا ما زلنا بشر ونحن على اتصال بالعالم من خلال متابعة كرة القدم، حيث تصادف أمس الثلاثاء مباراة للنادي الأهلي المصري الساعة الخامسة مساءً، وتعالت أصوات مشجعي النادي بفوزه على خصمه حرس الحدود. وفي المساء كانت مباراة لنادي الزمالك المصري ضد نادي الجونة وانتهت بالتعادل. ومع انتهاء المباراة كانت مشجعي ريال مدريد الإسباني ينتظرون المباراة التي انتهت بفوزه، وتعالت أصوات المشجعين بالفرح والصراخ.

ما يحدث اليوم ليس مجرد كارثة إنسانية، بل إبادة ممنهجة، تجري على مرأى ومسمع من العالم، دون تدخل حقيقي أو موقف حاسم.
لكننا، نحن الذين نعيش في الخيام، نُدرك أن هذه المرحلة، مهما كانت مظلمة، لن تطفئ نور الحياة فينا.