من نهر الأردن إلى نهر النيل

حجم الخط

بقلم عماد شقور 

 

تصادف وأنا أعيد قبل ايام قراءة كتاب «معارك المياه المقبلة في الشرق الأوسط»، أن لفت انتباهي مقال في النسخة الالكترونية لجريدة «يديعوت احرونوت» الإسرائيلية، يوم الاحد الماضي، يحتفي فيه كاتبه، شاي كنفو، بانتهاء إسرائيل مؤخرا من انجاز ما يسميه المرحلة الاولى لـ «مشروع المياه القُطري الثاني»، المكوَّن من ثلاث مراحل. وهذه المرحلة هي الانتهاء من تشييد محطة ضخمة لتحلية مياه البحر، عند ساحل منطقة «الخضيرة»، جنوب قيسارية.

يبدو للوهلة الاولى أن الترابط والعلاقة بين موضوعَي الكتاب والمقال ليست مباشرة ولا هي قريبة. لكن التدقيق في الامر يكشف بوضوح ترابطا وتكاملا بين الموضوعين.

لا بد من توضيح. ونبدأ بكتاب «معارك المياه المقبلة في الشرق الأوسط»:

هذا الكتاب صدر قبل ثلاثة عقود، وتحديدا في عام 1991، عن «دار المستقبل العربي» في القاهرة، وتعود أهميته لأسباب عديدة، قد يكون أهمها أنه يعالج موضوعا استراتيجيا بالغ الأهمية، تاريخيا وحاضرا ومستقبلا، وهو في ايامنا موضوع يشكل محور توتر على وشك الانفجار، بسبب قرار وبدء تنفيذ إثيوبيا لملء «سد النهضة» على اراضيها، من مياه المزوّد الاساسي لمياه نهر النيل، (اطول نهر في العالم)، وهو «النيل الأزرق»، دون التوصل الى اتفاق وتوافق بين دولة المنبع (إثيوبيا)، ودولة الممر (السودان)، ودولة المصبّ (مصر)، وفق الاتفاقات المبرمة بين هذه الدول الثلاث، ووفق الشرعية الدولية التي تحدد حقوق الدول التي تتقاسم الاستفادة من الانهار العابرة للحدود. اما السبب الثاني لأهمية هذا الكتاب، فهو ما حواه من معلومات وحقائق وافكار ووجهات نظر لمؤلفه القدير، د. محمود سمير احمد، الذي شغل مناصب عديدة في السلك الدبلوماسي المصري منذ سنة 1948 حتى سنة 1984، منها عمله سفيرا لمصر في تركيا وامريكا وتونس وكولومبيا والمكسيك والبيرو وايطاليا وإثيوبيا واستراليا، وأنهاها في منصب مندوب مصر الدائم لدى منظمة الوحدة الافريقية، في اديس ابابا، بين عامي 1982 و1984.

خصص الدكتور محمود سمير أحمد الباب الاول من كتابه الصغير، (176 صفحة)، لقضية مصر ونهر النيل ودول حوض النيل، مسجلا العديد من الحقائق عن دور إسرائيل في اثارة المشاكل لمصر، عن طريق تحريض إثيوبيا، قبل قطع الاخيرة العلاقات الدبلوماسية معها خلال حرب اكتوبر/تشرين الثاني 1973، على اقامة سدود على روافد «النيل الازرق»، ثم عادت إسرائيل، بعد اعادة العلاقات بين البلدين، (إثر اتفاقية كامب ديفيد)، الى حث إثيوبيا، اثناء اجراء المفاوضات/المؤامرات لتهجير بضع عشرات من يهود الفلاشا (!) الاحباش الى إسرائيل، على اقامة تلك السدود، بهدف اثارة المشاكل بين اثيوبا ومصر، والحاق اكبر ضرر ممكن بمصر، عن طريق خنقها وتعطيشها، بتخفيض حصتها المتفق عليها، من مياه النيل. وفي هذا السياق، ليس من الحكمة استبعاد ان تكون إسرائيل، (مدعومة من الادارة الامريكية)، محرضا أساسيا، بل ربما «المحرض الاساسي»، بأل التعريف، لإثيوبيا على بناء «سد النهضة» وبدء ملئه بمياه «النيل الأزرق» بتوقيت وبوتيرة تلحق اكبر ضرر ممكن بمصر، لتعطيش شعبها، (مئة مليون مصري عربي)، وتجفيف ارضها الزراعية المحدودة.. و،»مصر هبة النيل»، كما هي معروفة منذ زمن الفراعنة، بل منذ الأبد والى الازل.

“دور إسرائيل في اثارة المشاكل لمصر، عن طريق تحريض إثيوبيا، قبل قطع الأخيرة العلاقات الدبلوماسية معها خلال حرب اكتوبر/تشرين الثاني 1973، على اقامة سدود على روافد «النيل الأزرق» “.

نهر النيل كما نعرفه في مصر، هو في الاساس «نيلَين»، حيث بالاضافة الى «النيل الازرق» الذي ينبع من جبال وهضاب إثيوبيا، هناك «النيل الابيض» الذي ينبع من «بحيرة فكتوريا»، (مساحتها نحو 70 الف كيلومتر مربع)، منها 45٪ في اراضي اوغندا، و49٪ في كينيا، و6٪ في كينيا، ولا يجوز لاي عربي عاقل أن يستبعد احتمال أن تكون هناك علاقة مباشرة، لاختيار رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، للعاصمة التجارية الأوغندية، عنتيبي، مكانا للقاء علني (مشين)، هو الاول من نوعه، مع «رئيس مجلس السيادة السوداني»، عبد الفتاح البرهان، قبل اشهر، لبحث وتنشيط تآمر إسرائيل جديد له علاقة مباشرة بتعطيش شعب مصر العربي، وتقليص حجم حصتها من مياه نهر النيل.

كل ما تقدم هو كلام عن صراع صهيوني عربي مباشر. لهذا الحديث تتمة، بل وتتمات كثيرة. لكننا ننتقل الآن لما هو صراع فلسطيني وإسرائيلي مباشر.

نفتح هنا ملفا فلسطينيا إسرائيليا مباشرا. شاءت المصادفات ان كنت، شريكا مباشرا في واحدة من اولى حلقاته.. هي حلقة قدوم مندوب «الحكم العسكري» المباشر على العرب الفلسطينيين الذين فرضت/منحت لهم «بطاقة» الهوية الإسرائيلية. وانا هنا الفت النظر الي الفرق بين الهوية كخيار واختيار طبيعي وبين «بطاقة» الهوية.

في ذلك اليوم البعيد، ما بين منتصف الخمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي، كان قد توفي عمّي بديع شقور، «مختار» المسيحيين في بلدي سخنين، ورفض عمّي (امبدا) ووالدي (يعقوب) تولّي هذا «المنصب»، فتولاه ابن عم والدي، توفيق حنا شقور، وجاء الى سخنين «مندوب الحكم العسكري» في حينه، واذكر ان كان اسمه اوري طون، وطلب الاجتماع الى «وجهاء» سخنين. تم اللقاء وحضره كل مخاتير ووجهاء البلد، وحضرته، بدون ان اكون مدعوا بالاسم، وفوجئت بأوري طون يقول: انا هنا لأبلغكم بقرار حكومة إسرائيل مصادرة 97 مترا من اراضي سهل البطوف من حدوده الشرقية عند حدود جبال عيلبون الى حدوده الغربية عند حدود جبال كفر مندا، بما يعادل 15 كيلومترا تقريبا وذلك بهدف تأمين انسياب مياه يتم ضخها من «نفق عيلبون» الى سهل البطوف، وتنتهي عند « بحيرة اشكول»، ومنها تصل (بانابيب تحت الارض) حتى النقب في «إسرائيل».

قال اوري طون يومها: تستطيعون ان تقولوا ما تشاؤون عن امي واختي وغيرهما.. ولكن هذا قرار حكومي رسمي، ولا مجال لرفضه. قلت يومها ما كان يجب قوله.. وبدأت المعاناة لسنين من الاعتقالات والمتابعة والتضييق.

تتماشى الايام والاحداث.. ونتذكر. فقبل أيامنا بالف عام قال المتنبي، جامعا ما بين النيل في مصر، والفرات في العراق، في قصيدته الخالدة لحاكم الجولان ومنطقة بحيرة طبريا، عمّار بن ياسر، واصفا لورود الأسد:

وردٌ، اذا ورد البحيرة شارباً // ورد الفراتَ زئيره والنيلا!!

* كاتب فلسطيني .