الأوطان المنكوبة يُهاجَر منها، لا إليها!

توفيق أبو شومر.jpg
حجم الخط

بقلم: توفيق أبو شومر

ما أكثر مَن هاجروا ليجدوا فرصة أخرى للحياة، تُتيح لهم أن يُحققوا أحلامهم، فما أكثر الذين أصبحوا حِليةً في ميدالية الوطن! لأنهم تفوقوا، أقاموا المؤسسات، وأشرفوا على تعليم أبنائهم، ثم أنفقوا من ثرواتهم على أهلهم وذويهم، بما يُعزز صمودهم، هؤلاء ليسوا قِلَّة، وإن غابت أسماؤهم عن الذكر، لأن الناجحين دائماً مُغفلون!
هم فئة هاجروا من الوطن واعتبروا خروجهم فرصةَ حياةٍ جديدةً، هؤلاء اندمجوا في نسيج المجتمع الجديد، ألقوا عن كاهِلِهم كلَّ تبعات الوطن الثقيلة، واندمجوا مع آلية المجتمع الجديد، وشرعوا في صناعة مستقبلهم، جعلوا الوطن حليةً يُفاخرون به، يرفعون شعاراته، يعتزون به، ويعتزُّ بهم وطنُهم.
أما الفئة الأخرى هم في الغالب يحملون نوعاً من مرض الهجرة، هؤلاء أيضاً يندمجون في محيطهم الجديد، بنسبةٍ أقل من النسبة السابقة، هم يعوضون عن جُرعات الألم في وطنهم، فيتحولون إلى دعاة ومبشرين وطنيين، وقادة، ومرشدين، كثير منهم يَصير ناقداً لما يجري في الوطن من أحداث ليس للتصحيح، بل للتعريض بالخصوم والمنافسين، تعويضاً عن عدم قدرتهم على الاندماج الكامل في الأوطان الجديدة!
أما الفئة الثالثة المصابة بنوعٍ مُتقدمٍ من مرض الهجرة، فهم الذين اضطُهدوا في أوطانهم، غادروها مكرهين، هم في الغالب لا يندمجون بسهولة في المجتمعات الجديدة، لذا، فهم يعوضون نقص اندماجهم، يحولونه إلى نقمة على ما يجري في وطنهم السالف، كثيرٌ منهم يتحولون إلى مُنتقمِينَ لما تعرضوا له من ألم الاضطهاد والظلم، فهم لا يصبون جام غضبهم على مُضطهديهم فقط، بل يوسعون ظاهرة الإحباط واليأس على الجميع!
أما أخطر مرضى الهجرة ممن يحملون مرضاً ليس حميداً، فهم مَن عملوا مأجورين لأوطان الهجرة، هؤلاء يُخرجون ألسنتهم إلى أوطان مولدهم، ينتقمون من أوطانهم، يقومون بعملية تبشير للأجيال القادمة، يفرشون طريق الهجرة الوعر بالورود والرياحين للشباب المحبطين، ليس لفائدة هؤلاء الشباب، بقدر رغبتهم في الانتقام. هؤلاء المُشترون بالمال والجاه، هم في الغالب الأعم عملوا في السر والعلن أبواقاً لموطن هجرتهم الجديد، كثيرون منهم لا يعلمون بأنهم أصبحوا عملاء مأجورين لبلاد الهجرة بطريقةٍ ذكيَّة، غير مألوفة، هؤلاء المأجورون، جرى تأسيس ولائهم وفق الخطوات التالية:
جرى انتقاؤهم وفق خطوات اختبارية عديدة لمعرفة مدى كفاءتهم للمهمات الملقاة على عاتقهم، ثم مُنحت لهم ميزانياتٌ خاصة لإكسابهم الشهرة والحُظوة بالمال، ثم دعمهم في الأطُر المحيطة بهم، وتمكينهم من فتح مركز للتجمعات في الوطن، مثل الجمعيات الخيرية، وبعض مراكز الصداقة، أو مراكز الأبحاث والاتصالات، بحيث تختصُّ هذه المؤسسات بكتابة التقارير عن الأوطان، وتُقاس كفاءة المرشحين للولاء بمقدار استقطابهم وجذبهم للبارزين والشخصيات الرفيعة في الأوطان.
ولعلَّ الميزة الكبرى التي تؤهلهم لنيل جنسيات بلدان الهجرة هي قدرتهم على كشف مخبوءات الزعماء والسياسيين السرية، وقدرتهم على نظم عدد منهم، وشراء ولائهم!
أما درجة الرفعة والسمو التي يحصل عليها هؤلاء الموالون هي التي تُعجِّل في منحهم الجنسيات والامتيازات، تبرز قدراتهم في متابعة حركات أعداء دول الهجرة الجديدة، ومن ثّمَّ كتابة التقارير عن حركاتهم وسكناتهم، وكشف عوراتهم!
أخيرا، فإن غياب التثقيف والتنشئة الوطنية، وغياب الديموقراطية، والعدالة في الأوطان وانتشار المحسوبية والفساد يُحوِّلُ الأوطانَ إلى ممراتٍ للعبور إلى دول الهجرة، فتصبح تلك الدول المنكوبة دولاً يُهاجر منها، لا إليها!.