ما الذي يجري فلسطينياً؟ ثمة مستجدات سياسية وميدانية وضعت الحالة الوطنية، الرسمية والفصائلية، في وضعية رمادية، أو انتقالية إن شئتم، لم تقطع كلياً بعد مع مرحلة سابقة، عنوانها الأساس: 22 عاماً من مفاوضات تعاقد أوسلو السياسي والتزاماته الأمنية والاقتصادية، ونحو 10 أعوام من الانقسام الداخلي المدمر، ولم تقرر كلياً بعد الدخول الواعي المُخطط المدروس والمحسوب في مرحلة جديدة تجاهد الحالة الشعبية، مدفوعة باستباحات الاحتلال الشاملة، لشق طريقها، بما لم ينقطع من هبات جماهيرية وعمليات مقاومة عنيفة دفاعية بطولية، بينما يحول عجز النخب القيادية المنقسمة على نفسها عن توفير ركائز سياسية وتنظيمية واقتصادية واجتماعية وطنية موحدة، دون تحويل انفجارات هذا الغليان الشعبي المحلية والمؤقتة، إلى اشتباك انتفاضي شامل وممتد، يستطيع هزيمة عنجهية حكومة المستوطنين وتنمر رئيسها، نتنياهو، كما هزمت انتفاضة 87 حكومة شامير وتنمر وزير دفاعها، رابين، وكما هزمت انتفاضة الأقصى العام 2000 حكومة باراك وتنمر شارون، رمز التطرف الصهيوني. أما لماذا؟
أولاً: في السياسة، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يلوح الرئيس أبو مازن بإلغاء اتفاق أوسلو كتعاقد سياسي، بما ترتب عليه من اعتراف منظمة التحرير بوجود إسرائيل وأمنها، ومن شطب ما يتعارض معه من بنود الميثاق الوطني، ومن اعتراف بالقرارين الدولييْن 242 و338، ومن التزام بحل الصراع بالتفاوض المباشر تحت مظلة دولية تتحكم بها الولايات المتحدة، بل هدد بالتحلل من الالتزامات الأمنية والاقتصادية لهذا الاتفاق - التعاقد - السياسي في حال واصلت إسرائيل عدم الالتزام بها، ومن دون تحديد سقف زمني لتطبيق هذا التهديد، ومع إبقاء الباب مفتوحاً للتعامل مع أي مبادرات، وبالذات "المبادرة الفرنسية"، لاستئناف المفاوضات. وفي موضوع الانقسام الداخلي أعاد الرئيس تأكيد عزمه على إنهائه من مدخل تشكيل حكومة توافق وطني للسلطة، تلتزم ببرنامج المنظمة وتعهداتها، وتعد لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية لا يمكن إجراؤها إلا بموافقة إسرائيل وفي إطار اتفاق أوسلو وشروطه.
هذا هو الجوهر السياسي لخطاب الرئيس الذي شخَّص وعرض، كما ينبغي، وقائع حروب الاحتلال وقمعه وانتهاكاته ومجازره ومذابحه المتراكمة، وما يفرضه على الأرض من وقائع الاستيطان والتهويد، بما يؤكد أن سياسات الاحتلال ما زالت على حالها: عنصرية هجومية تستبيح فلسطين، شعباً ووطناً وأمناً وموارد، وتغلق باب التسويات السياسية، وتحول السلطة الفلسطينية إلى سلطة شكلية، وتسعى إلى تحقيق المزيد من أهداف المشروع الصهيوني.
وهذا كله ما بات العالم يعرفه، بل، وتناهضه شعوب هذا العالم، وتضيق به أغلب دوله، لكن الضغوط الأميركية هي، أساساً، ما يمنع تحويل كل ذلك إلى مواقف سياسية لعزل إسرائيل ومعاقبتها، كما حصل مع نظام التمييز العنصري البائد في جنوب أفريقيا، ولوضع هيئة الأمم أمام مسؤولياتها القانونية والسياسية والأخلاقية تجاه الشعب الفلسطيني، وفي أقله إلزام إسرائيل، بما هي آخر وأبشع احتلال في العالم، بتطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالصراع، كقرارات انتهى 22 عاما من التفاوض المباشر عليها إلى صفر نتائج، لا بسبب عدوانية إسرائيل وتوسعيتها وعنجهيتها وصلفها، فقط، بل، أيضاً، بسبب ما تحظى به حكوماتها المتعاقبة من دعم أميركي إستراتيجي ثابت، بما فيها حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو التي تجاهر بعنصريتها، وتعمل على فرض شروط جديدة، كالاعتراف بـ"يهودية إسرائيل" ما يهدد بطرد فلسطينيي 48 وشطب حق العودة رسمياً.
لذلك، وعليه، فإنه لئن كان مهماً كشف وقائع العنف الميداني والغطرسة السياسية والعنصرية الأيديولوجية لإسرائيل، فإنه على القدر ذاته من الأهمية، إن لم يكن أكبر، القطع مع السياسة الأميركية المعادية لتطلعات وأهداف وحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية والتاريخية، ولقرارات الشرعية الدولية التي لا تعطي سوى الحد الأدنى من هذه التطلعات والأهداف والحقوق.
إذ هل يعقل أن تكون واشنطن، راعي إسرائيل الإستراتيجي الثابت، راعياً نزيها للتفاوض المباشر معها؟! وهل كان ذلك ممكناً أصلاً منذ كان كيسنجر، (كما جاء في مذكراته)، ينسق خطواته مع بيغن قبل أي لقاء مع السادات، بينما أثبتت التجربة أن هذا هو حال وزير الخارجية الأميركي الحالي، كيري، وكل من سبقه من وسطاء واشنطن، لإدارة 22 عاماً من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، انسجاماً مع التحالف الإستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي؟! واليوم، كيف يمكن لواشنطن بقيادة أوباما أن تكون راعياً نزيها للمفاوضات، وهي التي تراجعت حتى عن دعوتها، (العام 2009)، إلى تجميد الاستيطان، بل، واعلنت مراراً أن إسرائيل "دولة يهودية"، فيما لم تدعُ ولو لمرة واحدة إلى انسحاب الاحتلال من كامل "مناطق 67"، ولم تستجب علانية للمطلب الفلسطيني بأن "القدس الشرقية" عاصمة للدولة الفلسطينية.
لقد ثبت أن ما يهم واشنطن بإداراتها المتعاقبة هو استمرار المفاوضات المباشرة تحت رعايتها وبلا شروط مسبقة.
أما ثانياً، ففي الميدان، وبعد سنوات من استباحة قدسية الأقصى والعمل على تطويع الإرادة الفلسطينية والعربية والدولية لقبول هذا الواقع، أشهرت حكومة نتنياهو الاستيطانية التهويدية في الشهر الماضي قرارها المبيت وغير المفاجئ لتقسيمه زمانياً ومكانياً، بل، ولحسم معركة القدس بتكريس وقائع تهويدها وطمس عروبتها وتفريغها من أهلها.
وكل ذلك في إطار خطة أشمل لمنع إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود "مناطق 67"، عبر مواصلة عقود من العمل على تفكيكها وتحويلها إلى معازل جائعة ملحقة بالسوق الإسرائيلية، وعلى تسييجها بأسوار استيطانية وجدران تفصل شمال الضفة عن جنوبها، وتسلخها عن القدس التي جرى ضمها قانونياً وعملياً، بينما تسير على قدم وساق محاولات تحويل الانفصال الجغرافي بين الضفة وقطاع غزة إلى فصل سياسي ومجتمعي، مع ما لذلك من ارتباط بالمساعي الثابتة لتوطين اللاجئين و"أسرلة" التجمع الفلسطيني في "مناطق 48".
وكل ذلك في توقيت سياسي بارع، يتكئ على انقسام فلسطيني مدمر، يراهن الاحتلال على أن معركة الأقصى والقدس المحتدمة لن تفضي إلى طي صفحته السوداء التي لم تطوها حروب التدمير والإبادة على قطاع غزة، وحرب الاستيطان والتهويد والتطهير والتفريغ المفتوحة والمتصاعدة في الضفة و"مناطق 48"، التي يشجعها تصاعد حروب "الفوضى الخلاقة" والفتنة والتدمير الذاتي المتواصلة التي أدخلت الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه في ليل بهيم، عنوانه تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، بما ينبئ بـ"سايكس بيكو" ثانية، فيما دول العالم الإسلامي، مثل شقيقاتها العربيات، لا تشغلها معركة الأقصى والقدس، اتصالاً بالاستحضار العبثي لصراعات وفتن المذهب والطائقة، بينما الغطاء الأميركي للهجوم السياسي والميداني الصهيوني الشامل، ثابت لا يتغير، ناهيك عن أن التمايز النسبي بين المواقف الأوروبية والموقف الأميركي، لا يُخرج الدور الأوروبي من دائرة الملحق والمكمل و"نائب الفاعل" لموقف واشنطن تجاه عناوين الصراع كافة، بما فيها ما يجري للأقصى والقدس وفيهما.
أما مواقف هيئة الأمم التي عوض أن تنطلق من قراراتها التي تعتبر "القدس الشرقية"، جزءا من الأراضي الفلسطينية التي احتلت العام 67، نجدها ترضخ لضغط واشنطن، وتتبنى موقفها في الدعوة إلى "ضبط النفس والحفاظ على الوضع القائم في الأقصى"، بكل ما تحمله هذه الدعوة من تأويلات والتباسات وتزوير للحقائق ومساواة بين الضحية والجلاد.
بل وتلوذ رئاسة هيئة الأمم بالصمت عن واجبها في الاستجابة للمطلب الفلسطيني الدائم والمشروع في توفير حماية دولية مؤقتة للشعب الفلسطيني، كخطوة انتقالية تمهد لخلاصه من الاحتلال، اتصالاً بإمعان إسرائيل بجيشها وقطعان مستوطنيها، برعاية أميركية ثابتة، في تسريع عمليات الاستيطان والتهويد والتفريغ والتطهير العرقي المخطط والإبادة الجماعية الممنهجة التي لم يعرف تاريخ البشرية المعاصر لها مثيلاً.
إزاء هذا الواقع السياسي فإن من الطبيعي والمنطقي لدرجة البداهة أن تتنمر أشد حكومات الاحتلال تطرفاً وعنجهية، لحسم معركة القدس، من بوابة تقسيم الأقصى، خاصة وأن الرافعة الوطنية الفلسطينية منقسمة ومعطلة عن لعب دور المبادر لتحريك العوامل القومية والدولية للقضية الفلسطينية.
فبين اشتعال المقاومة الشعبية في ساحات الأقصى دفاعا عن قدسيته وعروبة القدس، وهبات الضفة لمقاومة انفلات قطعان المستوطنين، ومعارك الأسرى لوقف التنكيل بهم، والغليان الشعبي في قطاع غزة احتجاجاً على الحصار والدمار وانقطاع الكهرباء، وصمود مخيم اليرموك ومقاومة مخيم عين الحلوة مصيراً يشبه مصير مخيم نهر البارد، تكمن مفارقة كبرى، هي تبعثر جهود المقاومة الشعبية الفلسطينية. إنها مفارقة تفرض الوطني التحرري كمعطى قائم ودائم في وعي الجماهير الشعبية الفلسطينية في القدس والضفة وقطاع غزة ومناطق 48 ومخيمات اللجوء. في هذه المفارقة، يكمن، أساساً، سر محاولة حكومة الاحتلال الانفراد بكل من القدس والضفة وقطاع غزة ومناطق 48، لحسم معركته مع كل منها على حدة، في ظل غياب قيادة وطنية موحدة وبرنامج سياسي وطني كفاحي واحد، لشعب ما زال يعيش مرحلة تحرر وطني، ويؤكد يومياً أنه مستعد للتضحية والعطاء.