الكتابة في زمن الكآبة...!

أكرم عطا الله.jpg
حجم الخط

بقلم: أكرم عطا الله

لم نفق بعد من ضربات كانت تنهال على رؤوسنا لسنوات منذ أن أوغل العرب ببعضهم ذبحا وقتلا وانهيارا وصنعوا أعداءهم منهم، ليجدوا إسرائيل ملجأهم حين خدعتهم بأن عدوهم مشترك فانحرفت بوصلتهم وأصيب مؤشرهم بلوثة لن يغفرها التاريخ لهم.
ما الذي يحدث في المنطقة؟ وأي سياسة تلك التي تدفع فيها الأموال والأرواح والكرامة بلا حساب. وكيف يمكن أن نفهم هذا الانزياح الذي يحدث بكل تلك البساطة والتخلي عن الفلسطيني وتركه وحيدا أمام الرياح العاتية وأنياب الجرافات يواجه بلحمه الحي ويتم تجريده من أدنى ممكنات قوته بعد أن أصيب الإقليم بخريفه الذي أسقط كل أوراق التوت.
حاولنا كفلسطينيين أن نرفع العصا في وجه إسرائيل، لم نستطع، قدمنا عظمنا ولحمنا ودمنا على عتبة الصراع، كانت إرادتنا تستدعي كل مخزون طاقتها التاريخية في مواجهة أعتى احتلال تدعمه القوى العظمى المجردة من الأخلاق ولم نستطع، وحين فاوض الفلسطيني كان يجد المسدس الإسرائيلي على الطاولة حاضرا، وحين فشلت عصا الفلسطينيين والعصا العربية الصدئة لم يبق غير الجزرة التي قدمت في مبادرة عرضتها السعودية قبل سبعة عشر عاما في بيروت كإغراء لإسرائيل فيما لو اعترفت بالحقوق العربية.
إن أي تطبيع مع إسرائيل في هذه المرحلة أو أي اتفاق أسوأ يعني تجريد الفلسطينيين من آخر أوراقهم التي يملكونها وهي الممانعة العربية، لم نصدق نتنياهو حين كان يتحدث عن علاقات سرية مع دول عربية، لكن، الآن، وبعد الاتفاق مع الإمارات علينا أن نتروى في الصدمة ونفتح أعيننا لنصدق أنه يمكن أن تكون تلك واحدة من لعنات التاريخ التي قدر للفلسطيني أن يشهدها متأملا ما يحدث دون أن يصدق أن دولا ليست بحاجة لإسرائيل تتقرب منها وتترك لنتنياهو أن يتبجح علينا بقدرته على جر العرب دون أن يدفع ثمنا للفلسطينيين. الآن، يحق له أن يشرب نخب انتصار نظرياته وهزيمتنا.
إنه الزمن العربي المعشب بالاصفرار الذي يفقد العربي فيه وزنه وذاته وهويته وقضيته، ويتحول إلى حالة أميبية زاحفة بلا أقدام نحو حتفها وحتفنا حين تهدي أكثر اليمين المتطرف هدية التطبيع والاتفاق مجانا وبلا ثمن في أسوأ الظروف التي يعيشها الفلسطيني وهو أحوج ما يكون لظهر عربي بات يقلع نحو سراب الوهم ليدوسنا في طريقه وهو يجري لاهثا.
من التالي في طابور الانهيار والانحدار؟ تراهن إسرائيل على انفراط عقد المسبحة وتسرب أسماء دول وممالك وعواصم حيث بات المشهد يشي بخيبة. من حق الشعوب أن تتساءل عن حجم الضعف والاهتراء والفشل والتخلف الذي ساد لعقود لنرى هذا القدر من السخرية، كيف تتمكن دولة لا يزيد سكانها على ثمانية ملايين من التفوق على كل هذه الملايين وتصبح مصدر إعجاب لمجموعات لم تورث شعوبها سوى الخراب وممالك لا وزن لها في حسابات السياسة.
«لا وزن للعرب، لماذا نعطيهم شيئا، ما حاجتنا لهم»؟ هكذا يتبجح المتطرف مردخاي كيدار المحاضر بجامعة بار ايلان وتلك الحقيقة التي لا نريد أن نراها بأن مجموعة دول عربية أقل من أن تواجه إسرائيل وأقل من أن تنشئ نظاما مثلها، وأقل من أن تخترع تكنولوجيا وأفكارا صناعية وأقل كثيرا من أن تتحداها ومن يتحدى يصبح عدوا للعرب قبل غيرهم بل وتسحقه إسرائيل بأياد عربية وبأموال عربية دون أن تلوث يدها.
أي زمن تزحف فيه دولة غنية يمكنها الاستثمار في كل العالم نحو تل أبيب وكأنها قبلة الاستثمار؟ أي زمن الذي يتنافس فيه العرب على التقرب منها سرا وعلانية؟ وأي زمن هذا الذي تنفذ فيه إسرائيل مشاريعها بتفتيت الفلسطينيين أيضا بأياد عربية وبأموال عربية وبمباركة فلسطينية، إنه الزمن الذي أصيبت به بوصلة المبادئ بالعطب ولم تعد تعرف شمالها من جنوبها.
ستستكمل إسرائيل اختراقها للمنطقة كما كان يحلم هيرتسل ذات يوم حين وضع ثلاث مراحل لنجاح المشروع آخرها أن تصبح إسرائيل طبيعية في المنطقة. وأخشى أننا لن نتمكن من إصدار حكم واحد على نفس الحدث ارتباطا بمصالحنا والأموال التي تأتي حين تحملها طائرة «الموساد» نبتلع ألسنتنا جميعا. فالموقف واحد والمعيار واحد بأن أي تقدم باتجاه تل أبيب قبل حصول الفلسطينيين على حقوقهم هو تجريد الفلسطينيين من قوتهم بل وأكثر هو إسفاف بالذات العربية بدرجة كبيرة وإهانة لتاريخها ولكرامتها.
انزلقت دول وستنزلق أخرى. لا يعني ذلك نهاية المسيرة، فحين دشن الفلسطيني ثورته وأطلق طلقته الأولى تحصن بإرادته ولحمه الحي وجذوره الممتدة في الزمن والجغرافيا. لن يغير الأمر كثيرا سوى مزيد من انكشاف الحقائق التي لم نكن نريد أن نصدقها ونعرف أن هناك من كذبوا فيما عاهدوا الله عليه ومنهم من مضى ومنهم من ينتظر، وهناك من سيلتحق به زحفا كما رسومات ناجي العلي الذي تنبأ مبكرا لأنه كان يقرأ عميقا حجم الوهم المنفوخ كأنه حقيقة ولكنه لم يكن خافيا على مثقفين يدركون أن هذا الواقع وهذا الإرث لن ينتج سوى الخراب.
ليس لنا إلا نحن في أكثر أيام العرب حلكة وسوادا ولا قوة إلا بقوة الأخ. آن الأوان أمام ما يحدث وما سيحدث أن نهز الضمير الفلسطيني الذي أخذته سكرة الحكم، أن يعيد تجميع شظاياه التي تكسرت بالانقسام، أن يرمم ذاته المجروحة وأن يستقوي بذاته الوحيدة في مواجهة عواصف التطبيع.
علينا أن ندرك أن هناك من سيقدم مزيدا من الهدايا لترامب ليعاد انتخابه خوفا من انتقام بايدن إن فاز، لأن هناك من ذهبوا بعيدا في مغامرة السياسة بلا حسابات أو أداروا سياسة جاهلة، لذا فإن الأسابيع القليلة القادمة ستشهد مزيدا من الصدمات ولكننا لن نترنح تحت وقعها بل المطلوب أن نقف بقوة اعتدناها على امتداد سنوات كفاحنا عندما كانت أقدامنا تنزف دما. هذا هو قدرنا وتلك مأساتنا وسط أمة هاوية شاء قدرنا أن نكتب عنها وسط هذا القدر من الكآبة.