«أبراهام» الذي هو «إبراهيم»..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

كانت النية التقدّم خطوة إضافية في التعقيب على الزلزال اللبناني، ولكن «اتفاق أبراهام»، الذي هو «إبراهيم»، والذي يصعب التغاضي، أو تأجيل الكلام عنه، فرض نفسه على مقالة اليوم، على أمل العودة إلى الموضوع السابق في معالجة لاحقة.
وفي البداية أود البوح بسرّ صغير: فمنذ دخول ترامب على «خط» الشرق الأوسط، وبداية الشغل على «الصفقة»، لم يفارقني الإحساس ـ كلما نظرت إلى زوج ابنته، وسفيره في إسرائيل، ومبعوثيه، الخبراء في قوانين العقارات ـ أنني أرقب مشهداً لكائنات فضائية. ثمة ما هو غير واقعي في السِحَنْ، ولغة الجسد، واللغة.
كان طيّب الذكر إدوارد سعيد دائم، وشديد السخرية، كتابةً وكلاماً، من المختصين الأميركيين بالشرق الأوسط في الجامعات، ومراكز الأبحاث، والخارجية والسفارات. فأغلب هؤلاء، في نظره، لا يعرفون الكثير عن الشرق الأوسط. ومع ذلك، حتى الذين سخر منهم، ومع آخرين موّل السعوديون والقطريون جامعاتهم وأبحاثهم لتعريف الغرب بـ «الإسلام»، يبدو كل هؤلاء أكثر «معرفة» ألف مرّة ومرّة من كائنات ترامب الفضائية.
ولا يحتاج الأمر إلى الفنتازيا، ومهارات السرد، للقول إن أحداً من هؤلاء اقترح عنونة الاتفاق الثلاثي الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الإماراتي بـ «اتفاق أبراهام»، رأينا أحدهم، على شاشة التلفزيون يشرح للإنجيليين الأميركيين، والمسلمين (فهو لا يعرف الفرق بين العربي والمسلم) بالتأكيد، دلالة وتاريخية عنونة سلام «أبراهام»، فهو أيها المسلمون الأكارم «إبراهيم»، أيضاً.
وكما سبق وقلنا إن في إطلاق تسمية «الصفقة» كبديل لتعبير «عملية السلام» ما يمثل إهانة لمعنى ودلالة الصراع في فلسطين وعليها على مدار قرن من الزمن. يمكن القول إن «أبراهام» هذا الذي هو «إبراهيم»، يبدو في مشروع الحلف الإسرائيلي ـ الخليجي الجديد، الذي دشّنه الإماراتيون، بديلاً لعملية السلام، والرباعية، وتوني بلير، ومبادرة السلام العربية، ولك أن تُضيف ما شئت من أسماء.
ويصعب، في الواقع، عدم الإحساس بإهانة من نوع ما هنا. فالكائن الفضائي، (يحظى بدعم خبراء في جامعات مولها الخليج بالدولارات النفطية، وأجهزة أمنية غربية وشرقية، على حد سواء، استثمرت في، وراهنت على، مشروع الأسلمة منذ زمن الجهاد الأفغاني، وتشتغل في الوقت الحاضر على «تجديد» الخطاب الديني).
وهو يعتقد أن المقيمين في منطقة تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي يعيشون مرحلة ما قبل السياسة، وأن اللغة الوحيدة التي يفهمونها، ويمكن إقناعهم بها، هي لغة الدلالة الدينية، خاصة (ومائة خط تحت «خاصة») إذا جاءت مثقلة بدلالات فصيحة وصريحة ومليحة عن «المصاري». مصدر الإهانة، هنا، أن الصراعات التاريخية لا تُحل بواسطة محامي شركات عقارية، وأن إقناع الناس بها يتم بلغة السياسة، لا بلغة قبلها، أو بعدها، وأن «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». وبالمناسبة، صاحب القول حبيبنا وابن بلادنا.
على أي حال، بهذا نمشي خطوة إضافية. اتفاق «أبراهام»، الذي هو «إبراهيم»، لا يعدو كونه مجرّد إشهار لعلاقات سريّة تجارية، وأمنية، ممتدة على مدار سنوات، تصعد وتهبط، لا بين الإمارات وإسرائيل وحسب، بل وبين إسرائيل وكل دول مجلس التعاون الخليجي، أيضاً، بما فيها السعودية، وقطر طبعاً. وبعض هؤلاء هم الذين أقنعوا البرهان السوداني بلقاء نتنياهو للخروج من ورطة وجود السودان على لائحة الإرهاب الأميركية.
بيد أن دلالة توقيت الخروج إلى العلن لا تقل أهمية عن دلالة التسمية، ولا تنطوي على جرعة أقل من الإهانة. التوقيت وثيق الصلة بمأزق نتنياهو مع القضاء، والانتخابات، والجمهور الإسرائيلي، وحقيقة أن الخاص والعام قد اجتمعا في شخصيته بطريقة تجعل الفصل بين العام والخاص، وبين الشخصي، والوطني، أمراً بالغ الصعوبة. وهذا، في الواقع، مصدر قلق بعض الإسرائيليين وتظاهرهم ضده، فهم يدركون هذا الأمر، وبالطريقة التي صوّرناها، أيضاً. لذا، نتنياهو يحتاج إنجازا لامعا بارعا ليبقى طافيا على سطح الماء.
وفي أميركا، تبدو حظوظ ترامب في الميزان، خاصة بعد الكورونا (الفيروس الصيني، كما يقول). لذا، يحتاج، فعلاً، لتحقيق إنجاز من نوع ما. علاقة ترامب بإسرائيل غير مفهومة، ولا تعبّر، بالضرورة، عن «الدولة العميقة»، وخيارات الإمبراطورية، واستراتيجيتها بعيدة المدى، كما يعتقد البعض. ثمة ما هو أبعد. والواقع أن المكان الوحيد الذي «يمون» فيه على تسعة وتسعين بالمائة من حكّامه هو العالم العربي. لذا يحتاج ترامب إنجازا لامعا وبارعاً. وهل ثمة ما هو ألمع وأبرع من شيء في وزن «أبراهام» الذي هو «إبراهيم»، يعلنه جالساً ومُحاطاً بكائناته الفضائية.
وقد كان من الممكن لكل هذا أن يحدث دون تبرير المساعدة الإماراتية لنتنياهو وترامب، بفلسطين، والفلسطينيين، و»السلام»، وتأجيل الضم (لاحظوا تأجيل، مش تراجع)، وكل ما في الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي من أوجاع الرأس. وكان من الممكن، وهذا منطقي، تماماً، أن يقولوا لنا: اسمعوا، نحن بلد صغير، وغني، والكل يتربّص بنا، عربٌ وعجم، ولا نستطيع الدفاع عن أنفسنا. وفي عالم اليوم كل ما لا تستطيع أن تشتريه لن تحصل عليه، لذا نشتري الستر والأمان، «لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها»، وفهمكم كفاية.
والعجيب أنهم لم يفعلوا ما يصعب، فعلاً، أن يُلاموا عليه، فهم دولة مستقلة، ويحق لها التصرّف بما تمليه المصلحة العليا للبلاد. وبدلاً من هذا كله يبدو أن القافية حكمت (كما يقول المصريون) في موضوع «أبراهام» الذي هو «إبراهيم»، وقد فعلوا هذا كله باسمنا، ونيابة عنّا، ودون استشارتنا، والانتباه إلى احتمال أن يكون «أبراهام» الذي هو «إبراهيم» أكثر إشكالية، إثارة لأوجاع الرأس من مبعوثين سابقين. ولنا عودة.