«الفيل الفلسطيني» في الغرفة الإسرائيلية حقيقة واقعة

حجم الخط

بقلم عماد شقور 

 

ما تشهده المنطقة هذه الايام، ومنذ يوم الخميس الثالث عشر من الشهر الحالي، (ومعروف أن اليهود، وغالبية البروتستانت، وبشكل خاص الإفنغلست، يتفاءلون بالرقم 13، لأسباب لا فائدة من شرحها هنا)، من اعلان التوجه لتطبيع دولة الإمارات العربية المتحدة لعلاقاتها مع إسرائيل، هو في واقع الحال، اعلان وفاة، اكثر منه اعلان ولادة. هو اعلان «بُشرى» قدوم مولود جديد، مكتوب على ورقة اعلان نَعْي. هو كتاب طلاق على وثيقة عقد قران.

لكن الدقة تستدعي الاستدراك: ليس اعلان وفاة واحدة، وانما وفاتان اثنتان: (1) وفاة «صفقة القرن» التي عمل عليها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وهي وفاة غير مأسوف عليها، و(2) وفاة مأسوف عليها، الى حدٍّ ما، هي وفاة المبادرة العربية، (السعودية المنشأ)، التي أقرتها القمة العربية في بيروت سنة 2002. وربما كانت الدقة تستدعي استدراكا ثانيا: هو أن حالة «صفقة ترامب» ليست «وفاة مكتملة الشروط» بقدر ما هي، حتى الآن على الأقل، ما نتعارف عليه بلغة عصرنا، انه حالة «موت سريري». وكذلك هي حالة «المبادرة العربية/السعودية» حيث ما زالت هناك بعض اعضاء وخلايا في هذا الجسد العربي، تنبض بشيء من رمق الحياة.

لا داعي، ولا مبرر للفلسطينيين أن يحتفلوا، ولا أن ينتحبوا ايضا، على نبأي الوفاة عملياً. كما أنه لا مبرر لهم ان ينتحبوا ولا ان يحتفلوا بـ«زفّة» الثلاثي: الأمريكي الإسرائيلي الاماراتي. ذلك أن المتوفي الاول هو عمل شرير ضد حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني، واما المتوفي الثاني فهو ما قبله الفلسطينيون على مضض. في حين أن «زفّة» المولود المعادي «الثلاثي الأبعاد» من الناحية الثانية، لا توفر سببا مقنعا لفتح مناحة فلسطينية، ولا «حفلة لطم» ذلك أنه لا يزيد عن كونه مجرد حدث مقيت مؤذٍ، لكنه لا يملك، في واقع الحال، أي بُعد حقيقي عملي، ولا يملك قدرة على احداث تغيير في جوهر صورة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا في مجمل صورة الصراع العربي الصهيوني، في أي واحد من التفاصيل الأساسية في هذا الصراع المرير المتواصل.

جوهر الصراع هو رفض الحركة الصهيونية، وحكومات إسرائيل بشكل عام، والحكومات المغرقة في يمينيتها وعنصريتها التي يرأسها بنيامين نتنياهو، بشكل خاص، الاعتراف بالوجود الوطني الفلسطيني الحقيقي والثابت والظاهر ذاته، وما يترتب على ذلك من حقوق وطنية وسياسية، وأولها حق السيادة وحق تقرير المصير. وبكلمات اخرى، كنت قد تطرقت الى مضمونها وفحواها من قبل: نتنياهو، ومعه اليمين المتطرف العنصري في إسرائيل، لا يرى في الشعب الفلسطيني مجرد «عدو» له، بل يرى فيه «بديلا» له. ومع العدو يمكن خوض صراع وحروب عادية، يلحقها، وساطات وتدخلات وتفاهمات تقود الى تسويات تنتهي الى اتفاقيات سلام في نهايتها. اما مع «البديل» فالصراع هو «صراع بقاء» لواحد فقط من البديلين.

تبادل الشعب الفلسطيني والحركة الصهيونية الأدوار خلال هذا الصراع المرير: منذ انطلاق الحركة الصهيونية، وبدء موجات الهجرة اليهودية الى ارض فللسطين، كان موقف الشعب الفلسطيني واضحا وحادّا باعتبار القادمين اليهود هم بديل، وليسوا مجرد عدو، وان ارض فلسطين تتسع لواحد فقط من البديلين، وكان موقف الحركة الصهيونية، هو ان «ارض إسرائيل» تتسع لهم وللعرب الفلسطينيين، وانهم ينشدون التعايش، في أحسن الحالات، ويخوضون صراعا مع «العدو العربي الفلسطيني» في أسوأ الحالات. واستمر هذا الحال حتى سنة النكبة 1948، ولَحِق بتلك الحقبة عِقدان مرتبكان، انتهيا مع الصمت (المؤقت)، لمدافع حرب حزيران/يونيو 1967، لتبدأ حقبة جديدة، مع الانطلاق الحقيقي للحركة الوطنية الفلسطينية، وتسلّم حركة «فتح» رمز تلك الوطنية الفلسطينية، لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. ومع بدء تلك المرحلة، تبادل الفلسطينيون والحركة الصهيونية الأدوار: رفعت الحركة الوطنية الفلسطينية شعار أن إسرائيل هي «العدو» وأن في «أرض فلسطين» متّسعا لإسرائيل ولـ»دولة فلسطينية مستقلة» على «أي شبر من أرض فلسطين يتم تحريره او زوال الاحتلال/الاستعمار الإسرائيلي عنه» في حين رفعت إسرائيل الشعار الفلسطيني السابق، معكوساً، وهو أن الفلسطيني ليس مجرد عدو، مثل غيره من العرب، بل هو «بديل» عن «دولة إسرائيل» ولا وجود لإمكانية قيام «دولة فلسطينية» على «أرض إسرائيل».

“ما يحتاجه العمل الوطني الفلسطيني هو المبادرة، وليس بوسع الحكومة الفلسطينية الادعاء أن لا مجال ولا إمكانية للمبادرة على أصعدة محلية “.

الأهمية السياسية الجوهرية لاتفاقية أوسلو كانت توصل الفلسطينيين والحركة الصهيونية، الى توافق وقبول أنهما مجرد عدوين لا أكثر، ولا يشكل أي واحد منهما بديلا للآخر، وأنه يمكن أن تتسع ارض فلسطين/ارض إسرائيل، (كل طرف كما يسميها)، لكِلا العدوين، وبدء مفاوضات مضنية بين عدوّين لدودين، انقطعت، عمليا، بعد اسابيع قليلة من بدئها، (ولهذا ولأسبابه يمكن التطرق في مقال لاحق)، وانقطعت، رسميا، باغتيال اليمين الصهيوني العنصري المتطرف لرئيس الحكومة الإسرائيلية، اسحق رابين، وبتحريض مباشر من نتنياهو، وعادت عجلة الصراع الى مربّعها السابق، مربّع: الفلسطيني ليس عدواً عربياً مثل شعوب لبنان او سوريا او اليمن او الجزائر او غيرها، الفلسطيني «بديل» يجب محوُه. وهذه هي الحرب التي نخوضها هذه الحقبة مع نتنياهو واليمين العنصري الإسرائيلي المتطرف.

عودة الى احداث ايامنا الحالية، تقودنا الى تسجيل حقيقة انه لم يكن للحركة الصهيونية، ولإسرائيل، بعد نجاحهم في اقامتها، مشكلة حقيقية مع غالبية «القصور العربية».. وبتحديدٍ اكثر: مع غالبية قصور الملوك والرؤساء والامراء و«الشيوخ» العرب. مشكلتهم مع الشعب الفلسطيني، ومشكلتهم مع الشعوب العربية، ومع الشارع العربي بشكل عام.

أن يلتقي هذا المسؤول الصهيوني الإسرائيلي مع هذا الملك/السلطان/الرئيس/الامير/ الشيخ/ ولي العهد هذا أو ذاك سراً هو فعل مشين يسعى ذلك الحاكم العربي، (واحيانا الفلسطيني)، الى نفيه او بذل محاولة مقيتة لتبريره، اما ان يتحول ذلك الى فعل معلن على رؤوس الاشهاد فتلك خيانة وبجاحة ودونية بلا قعر.

لا يكتمل ما اسعى لتوضيحه، في كل ما تقدم من اسطر وفقرات، دون وقفة صريحة، واضحة، معلنة، مع الذات، مع الوضع الفلسطيني، فاقول:

إن التصدي الفلسطيني، وتحديدا: تصدي الاخ الرئيس ابو مازن، بكل المناصب التي يشغلها، وبكل المواقع التي له بجميع صفاته في منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وفي حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» وفي السلطة الوطنية الفلسطينية «الفعلية» (الى حد ما)، في الضفة الغربية، و«المفترضة» في قطاع غزة الذي خطفته حركة الإخوان المسلمين، (بالسلاح والنار والتعاون ،العملي، مع إسرائيل)، تحت اسم «حماس» وفي «القدس العربية» التي تحتلها وتستعمرها إسرائيل الرسمية، وقطعان مستوطنيها، هو عمل ونشاط مشرف وعظيم وايجابي ومبارك ومرحب به وطنيا، لكنه جميعا يندرج تحت عنوان واحد، هو عنوان «ردود فعل» بالغة الايجابية، ولكنها تبقى ردود فعل، ومحاولات مباركة وناجحة، حتى الآن، في التصدي لمبادرات العدو الإسرائيلي، لم ترتقِ الى مرتبة «المبادرة» وهي ردود فعل وإن كان لا بد منها، فإنها غير كافية. ما يحتاجه العمل الوطني الفلسطيني هو المبادرة، وليس بوسع الحكومة الفلسطينية الادعاء ان لا مجال ولا إمكانية للمبادرة على أصعدة محلية (التعليم مثلاً)، والوطنية (الزراعة مثلاً)، والعربية (الأحزاب والنقابات مثلاً)، والدولية (بناء التحالفات والتفاهمات المعلنة والمضمرة مثلاً)، وقبل كل كذلك: العمل والسعي لتحقيق وجود وتأثير عملي في الساحة الإسرائيلية ذاتها.

المبادرة الفلسطينية هي الأساس، وهي الأمر المطلوب والممكن، وهي الرد الذي يمكن له أن يظهر مدى هزال نشاطات نتنياهو، الذي انصفه أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب «يسرائيل بيتينو» العنصري عندما قال، (معلِّقاً ومعقِّبا)، على انتقال نتنياهو بعد يوم واحد من عودته من لقاء مع ترامب في واشنطن الى إسرائيل، عن طريق موسكو ليصطحب معه معتقلة يهودية إسرائيلية هناك، بتهمة تهريب مخدرات، الى عاصمة اوغندا للقاء معلن مع «البرهان» السوداني: انه «كاركوز طائر».

هذا الـ»كاراكوز الطائر» قد يحط بعد أيام في هذا المطار او ذاك في دولة الإمارات العربية المتحدة، لكن «الفيل الفلسطيني» في الغرفة الإسرائيلية، موجود وقائم ومستقر ومستمر، وهو من سيحسم النتيجة النهائية للصراع، حتى لو نجح نتنياهو في تضليل وخداع شيوخ وامراء وولاة عهد، بأنه يراهم هم ولا يراه.

دور ابو مازن، والحركة الوطنية الفلسطينية، أن يُلزموا نتنياهو وعبيده هنا وهناك، أن يتعاملوا بجدية وباحترام مع الفيل الفلسطيني، الذي لا تشكل محاولة انكارهم لوجوده، إلا إثبات معاناتهم من قصر نظر، ما لم يكن ذلك اصابتهم بعمىً كامل.