التطبيع مع الضم، وضد السلام

حجم الخط

بقلم : د. مصطفى البرغوثي

 

الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية

أخطر ما فعله الإعلان الثلاثي الأمريكي – الإسرائيلي – الإماراتي حول تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل، كان محاولة إضفاء شرعية عربية على "صفقة القرن" التي بقيت معزولة فلسطينياً، وعربياً، ودولياً.

بل إن جوهر ذلك الإعلان كان في الواقع تبني صفقة القرن التي ليست سوى مؤامرة لتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية بدءاً بحق الفلسطينيين في عاصمتهم القدس، ومروراً بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وإنتهاءاً بحقهم في إقامة دولتهم الحرة المستقلة وذات السيادة الحقيقية.

ومثل الإعلان تطبيقاً لركيزة صفقة القرن الثانية وهي التطبيع مع إسرائيل دون إنهاء الاحتلال ودون تحقيق السلام.

وارتكزت مبررات ذلك الإعلان على ادعاءين. الأول أن التطبيع أوقف عملية الضم الإسرائيلية لأراضي الضفة الغربية، وثانياً أنه مثل خطوة نحو تحقيق السلام. وكلا الإدعاءين يمثلان خداعاً كبيراً لا يقل عن "خدعة القرن" التي مثلها مشروع ترامب.

فالإدعاء بأن الاعلان، وتوقيعه، سيوقف الضم، ثبت بطلانه لخمسة أسباب :-

أولا : أن نص الإعلان ذكر "تعليق الضم" وليس إلغاء الضم. وعملياً فإن القبول "بتعليق" الضم يعني القبول بالضم مبدئيا، والاكتفاء فقط بتأجيله.

ثانياً : لأن بنيامين نتنياهو لم يترك للجانب الإماراتي فرصة لحفظ ماء الوجه، فسارع للإعلان في المؤتمر الصحفي الخاص به والمخصص لتقديم إتفاق التطبيع، بأن مشروع الضم ما زال قائماً، وأنه لم ولن يتخلى عنه، بل صعد حجم الضم المقصود ليجعله يشمل كل الضفة الغربية التي سماها أرض إسرائيل، بقوله " أنه مصمم على فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية".

وأتبع نتنياهو ذلك، في لقاء آخر بإعلانه "أنه حقق ما وعد الإسرائيليين به"، بعقد إتفاقيات وتطبيع مع دول عربية دون القبول بدولة فلسطينية"، وأنه سيحقق لهم وعده الآخر "بإنجاز الضم وفرض السيادة الإسرائيلية".

ثالثاً : لأن السفير الأمريكي في إسرائيل فريدمان، وهو من أكبر المتحمسين للضم، قال أمام الرئيس الأمريكي ترامب ، وعلى مسمع من وسائل الاعلام، بأن الضم تأجل ولكنه لم يلغ وسينفذ.

رابعاً : لأن إعلان الإمارات للاتفاق مع إسرائيل جرى مع إستمرار إسرائيل في ضم القدس العربية، وبعد أن اعترفت الولايات المتحدة بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونقلت سفارتها اليها، وبعد أن أعلنت إسرائيل ضم أراضي الجولان العربية السورية، بموافقة ترامب وفي مخالفة واضحة للقانون الدولي، مما يجعل الإمارات العربية شريكة في خرق ذلك القانون.

خامساً : لأن عملية الضم الفعلي للأراضي الفلسطينية المحتلة جارية على قدم وساق، من خلال التوسع الاستعماري الاستيطاني غير المسبوق، والإعلان عن بناء الف وحدة استيطانية في ما يسمى بمنطقة " E1 "، وهي منطقة بالغة الحساسية، لأن الاستيطان فيها يعني شطر الضفة الغربية نهائياً الى جزئين، وخلق تواصل جغرافي كامل بين المستعمرات الاستيطانية في الأغوار ومثيلاتها في القدس وإسرائيل.

والواقع أن التأثير المباشر للإعلان الإماراتي – الإسرائيلي – الأمريكي كان تقوية معسكر نتنياهو العنصري المتشدد والمتطرف والمصر على تحقيق الضم، وتدمير كل فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة، وبالتالي فإن الإعلان قوى إمكانية الضم بدل أن يضعفها، وخاصة أنه ألحق ضرراً كذلك بحالة العزلة الدولية لمشروع الضم، من خلال ترحيب بعض الدول المعارضة للضم، بالبيان الإماراتي – الإسرائيلي.

وكل ذلك يبدد الخدعة التي يصر عليها بعض المسؤولين الدوليين، بان الإعلان الإماراتي – الإسرائيلي يقربنا من السلام.

الإمارات لم تكن يوماً طرفاً في حرب أو صراع مع إسرائيل كي يحتفل العالم بالسلام بينهما، والصراع الحقيقي هو الدائر اليوم بين نظام الاحتلال والتمييز العنصري الإسرائيلي والشعب الفلسطيني.

واتفاقية التطبيع الإماراتية مع إسرائيل، تشجع في الواقع الاتجاهات العنصرية والعدوانية الإسرائيلية على تصعيد هجماتها ضد الشعب الفلسطيني، وعلى قبر ما تبقى من فرص لما سمي "بحل الدولتين"، وبالتالي فان هذه الاتفاقية لم تقرب المنطقة، بل أبعدتها أكثر، عن فرص تحقيق "السلام" الذي لا يمكن أن يتم دون تلبية حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والعدالة.

إلا إذا كان بعض الساسة يتخابثون، ويصرون على الخلط المقصود بين مفهومي "السلام" و "الاستسلام".

الإستسلام للمعتدي لم يكن يوماً، ولن يكون سلاماً، بل عاملاً في إذكاء الصراع.

وإضافة إلى ذلك فإن الإعلان الإماراتي الإسرائيلي الأمريكي مثل خروجاً على "المبادرة العربية للسلام" التي وقعتها الإمارات، وكل الدول العربية بمن فيها من عقدوا سابقا اتفاقيات مع إسرائيل، والتي أكدت أن التطبيع مع إسرائيل مشروط بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وبالتالي فإن الإعلان مثل خروجاً على قرارات الإجماع العربية، بل وعلى القانون الدولي.

وليس خافياً على أحد أن هذا الإعلان قد يمثل مقدمة لإنشاء تحالف إقليمي مع إسرائيل الطامعة في توسيع عدوانها ضد دول المنطقة وفرض هيمنتها العسكرية، والأمنية، والسياسية والاقتصادية على المنطقة بأسرها، وهو تحالف من شأنه أن يلحق أفدح الأضرار على المدى البعيد بشعب الإمارات نفسه، ويحمل في طياته خطراً حقيقياً على دولة الإمارات من المطامع الإسرائيلية التي لن تتورع عن محاول أخذ دول المنطقة رهائناً لمنظومتها العسكرية والأمنية والاقتصادية.

ليس بين الشعب الفلسطيني وشعب الإمارات إلا الخير ومشاعر الأخوة و التضامن ، ولن ينسى الشعب الفلسطيني للرئيس السابق لدولة الإمارات الشيخ زايد رحمه الله مواقفه المتميزة والرائدة والشجاعة في دعم نضال الشعب الفلسطيني، و من حق كل دولة أن تقرر مواقفها، و لكن الإعلان الثلاثي حول التطبيع كان مخالفا لذلك النهج.

إتفاق التطبيع، لم يوقف الضم، بل زاد مخاطره، ولم يقرب أحداً من السلام، بل زاده بعداً، ولن يفيد إلا الطغمة الإسرائيلية العنصرية المتطرفة، وإدارة ترامب التي ربما تطمح لتقليل تكاليف وجودها العسكري في منطقة الخليج، باستبداله بوجود إسرائيلي.

ويخطيء من يظن أن اتفاق التطبيع سيضعف إصرار وعزم الشعب الفلسطيني على إسقاط صفقة القرن، وإفشال كل مشاريع التطبيع الرامية لتمريرها.