قلّما توحّدت فلسطين الجغرافيا والتاريخ منذ العام 1948 وقيام الدولة العبرية، مرّات قليلة هي التي كانت حدود فلسطين التاريخية واضحة المعالم منذ ذلك الوقت، لكن هناك استثناءات يمكن الإشارة لها، توحّدت بها فلسطين بحدودها المعروفة جغرافياً وتاريخياً، كان ذلك للمرّة الأولى، منذ قيام الدولة العبرية على أنقاض فلسطين التاريخية، العام 1967، عندما تمكنت إسرائيل من احتلال كل من الضفة الغربية التي كانت تحت الإدارة الأردنية، وكجزء من المملكة الأردنية، وكذلك قطاع غزة، الذي كان يُدار من قبل الإدارة المصرية، الاحتلال الكامل لفلسطين الكاملة العام 1967، أوجد حدوداً جديدة في الوقت الذي، توحّد به مواطنو فلسطين باستثناء اللاجئين في الشتات، تحت احتلال، تمكنوا من خلاله من «إعادة الاتصال» بين المواطنين الفلسطينيين المقيمين في كل من مناطق 1948، و1967، إلاّ أن هذه الوحدة، كانت تحت الاحتلال الكامل إلى أن جاء الاحتلال الجزئي، وفقاً لاتفاق أوسلو العام 1993، حيث قامت السلطة الوطنية الفلسطينية في إطار «غزة ـ أريحا أولاً» ـ وهذا يعني من حيث المفهوم والمسمّى وحدة الضفة وغزة، وعادت الجغرافيا إلى ما كان الأمر عليه العام 1948.
كذلك، وبصورة أكثر توحُّداً، عادت فلسطين الجغرافيا والتاريخ للتوحُّد من جديد، في إطار الانتفاضتين الفلسطينيتين، الأولى العام 1987، والثانية العام 2000 هذه المرة، تحت وحدة الشعب الفلسطيني مكرّسة في وجه الاحتلال، كانت وحدة مقاومة تحت سيطرة شباب الانتفاضة، وحدة الدم الفلسطيني لم تتوفر أثناء وحدة فلسطين الجغرافيا والتاريخ أثناء الاحتلال الإسرائيلي العام 1967، لكنها تجلّت بأعظم صورها أثناء الانتفاضات الفلسطينية، كما هو الأمر عليه الآن، مع بدايات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة.
وقد سبق وأن تناولنا في مقال سابق، بعض الفروق بين كل هذه الانتفاضات الفلسطينية، لكن ما يوحد فيما بينها، أنها تبدأ عفوية وبقرار فردي من أشخاص ونشطاء معظمهم من الشباب المتحمّس، ولا يملك أي سلطان عليها فرض نفسه وصيّاً عليها، مهما حاول مع بدايات كل انتفاضة التي تضع لنفسها آليات استمرارها إلى أن يأتي الوقت المناسب، «للتدخل» من قبل المنظمات والفصائل، وهذا التدخل محمود وضروري في إطار تنظيم وتنسيق جهود الانتفاضة، لكنه في بعض الأحيان، يشكل خطراً حقيقياً على الانتفاضة من جانبين: الأول، يتعلق بإمكانية تحويل الانتفاضة الشعبية إلى انتفاضة مسلحة، خاصة إذا ما تمكن الاحتلال من جرّ الانتفاضة والفصائل إلى هذا المجال، الأمر الذي يفقد الانتفاضة الشعبية هُويّتها، كما أنها تتحول إلى ما يشبه الحرب، بين قوى مسلحة، من الواضح تماماً، أن ميزان القوى يخدم الجانب الإسرائيلي في هذا المجال.
أما مخاطر التدخل الأخرى، فتتعلق، بركوب موجة الانتفاضة لمصالح فئوية فصائلية، ومسمّيات جديدة تحاول استثمار دماء الشهداء وتضحيات الجرحى وجهود الشباب لصالح منافع آنية على حساب المصالح الوطنية الكبرى، وهذا ما لاحظناه في الانتفاضتين الأولى والثانية، كما لمسناه مثلاً مع بدايات الانتفاضة الثالثة.
على الأرجح أننا الآن في بدايات انتفاضة ثالثة، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الانتفاضة ـ في حال اكتمال عناصرها ـ تشبه إلى حد كبير الانتفاضة الأولى من حيث دور وسائل الإعلام، وللتذكير فقط، فإن نجاح الانتفاضة الأولى، كان يعود بدرجة أساسية إلى دور الإعلام في إبرازها وتغطيتها، وتشكيل رأي عام إقليمي ودولي مناصر لها، الانتفاضة الثانية، لأسباب عديدة، لم تحظَ بمثلِ هذا الاهتمام، ولكن هذه المرة، الثالثة ربما، فإن استخدام وسائل الإعلام الحديثة، الإلكترونية منها على وجه الخصوص، هو الذي يميز دور الإعلام، سلباً أو إيجاباً، وبالنظر إلى متابعتي الدائمة لوسائل الإعلام المختلفة، فإنني أعتقد، أن دور الإعلام الإلكتروني تحديداً، يشكل خطراً على هذا الحراك الانتفاضي، بالنظر إلى نزعات فئوية تمارس دور الشقاق والفتنة والتخوين والتكفير، وتزوّر الحقائق وتنشر الشائعات لأسباب نفعية، وربما جاهلة للدور الذي يجب أن يلعبه الإعلام عموماً، والإلكتروني على وجه الخصوص، في تلافي أخطاء تمت ممارستها بكل أسف في السابق، ويمكن القول في هذا السياق، إن وحدة الشعب وراء الانتفاضة، بل معها وبها، لا يمكن أن تتحقق فعلاً من خلال هذا الاستثمار النفعي لدماء الشهداء والجرحى وجهود شباب الحراك الانتفاضي الفلسطيني، بل خيانة واضحة لهذه الدماء والجهود المباركة.
في سياق متصل، فإن الصورة هي جوهر العمل الإعلامي في عصرنا الراهن، لكن وبكل أسف، فإن الصور التي تتضمن تمثيلاً ومحاكاة، على أنها صور حقيقية، تفقد الصور الحقيقية أهدافها كرسالة موجهة من الانتفاضة للتأثير الإيجابي على الرأي العام، وهنا لا أريد أن أكرر ما سبق وأن أشار إليه الزميل رامي مهداوي في «الأيام»، السبت، فقد أصاب الحقيقة تماماً!!