إدارة الصراع الخاطئة: إما اندفاع هائل أو سكون قاتل..!

 أكرم عطا الله
حجم الخط

 لا أظن أن أحداً قادر على استثمار اللحظة التي فاجأت الجميع حد الإرباك، ولا أظن أن أحداً من اللاعبين في مسرح الصراع يعرف ماذا يريد من هذه الاشتباكات المتسارعة .. 
وحدها حركة حماس بين اللاعبين الثلاثة: هي، «والسلطة وإسرائيل» تريد للعمليات أن تتصاعد في الضفة والقدس بعيداً عن غزة ولكن دخول غزة على خط المواجهة بهذا الزحم من الشهداء والجرحى ربما يجعلها تفكر كالآخرين.


 وحدهم الشهداء يعرفون أين يذهبون مندفعين ببراءة ونقاء وطنيين للتعبير عن صرخة وطن محبوسة في الحناجر .. وحدهم يتقدمون بلا حسابات، يخوضون معاركهم بلا توجيه ولا قيادة ولا شعارات ولا سياسة سوى إشهار لون الدم في وجه واقع رديء، يقودون انقلابهم الطاهر ضد عدوهم الرئيسي .. يدفعون الثمن وحدهم ..مجموعات من الفتية قرروا التمرد فجأة مندفعين بما يملكوا من فائض عناد وإصرار ليقلبوا كل الحسابات الإسرائيلية التي اعتقدت أن السكون هو القدر الوحيد الذي رسمته لشعبنا.


 لا أحد يريد تصعيداً أو هكذا يتضح، فالسلطة تخشى من استمرار أو تصاعد الأحداث، ما يعيد تكرار نموذج انتفاضة الأقصى والسور الواقي وعمليات الداخل ومحاصرتها دولياً وإضعاف أجهزتها، أما حركة حماس بعد شهداء غزة فهي تخشى انتقال الأحداث إلى المنطقة التي تسيطر عليها لتنجر غزة نحو حرب هي آخر ما تريده غزة وحركة حماس، فغزة ما زالت تداوي جراحها وهي بحاجة إلى إعمار وليس إلى مزيد من الدمار.


 أما نتنياهو الذي يعزي نفسه بأن هذه العمليات فردية مبرراً عجزه أمام حكومته بأن ليس هناك جسد منظم أو رأس يمكن محاربته في هكذا أوضاع فإن آخر ما كان يحتاجه هو هذه العمليات غير القادر على إيجاد حل لها، وهو لا يريد مزيداً من التصعيد من خلال اجتياحات أو حروب فالظرف لا تسمح وخصوصاً أنه سيبدأ بمفاوضات تعويض الملف النووي الإيراني من الولايات المتحدة بعد أن أعلن أن الخلاف معها قد انتهى بعد فشله في التحريض على الاتفاق، وإثر لقائه بوزير الخارجية الأميركي كيري على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
 فعودة العلاقات مع الولايات المتحدة تستدعي عدم إغضابها مرة أخرى لذا أعلن عن الاستجابة للضغوط الأميركية في الملف الاستيطاني. 


وتأتي هذه العمليات إذا ما واجهها نتنياهو بعملية موسعة في الضفة الغربية أو عدوان على غزة عامل تخريب على سلة التعويضات الأميركية التي ينتظرها وهي مهمة من أجل استقرار حكومته وخصوصاً لجهة دعم الجيش والذي تبلغ الهوة بين ما يطالبه من موازنة وبين ما أقرته وزارة المالية حوالي ثمانية مليارات شيكل.


 لكن نتنياهو أيضاً سعي جاهداً إلى تكريس الواقع الراهن في الضفة الغربية بلا أي تغيير مستغلاً الهدوء الذي تشهده الضفة الغربية ليقدم نفسه بأنه الرجل الذي تمكن من توفير الأمن للمواطن الإسرائيلي بعد سنوات من العمليات داخل المدن الإسرائيلية وضد المستوطنين في الضفة الغربية ليجد نفسه وسط كابوس من الاشتباكات والطعن ليست عملية أو اثنتين .. عشرات العمليات التي تحصيها وسائل الإعلام والتي مست جوهر استراتيجيته في الضفة الغربية ومشروعه بالسلام الاقتصادي بلا مفاوضات سياسية يظهر فجأة عشرات الشباب حاملين أرواحهم على أكفهم قائلين بأجسادهم البريئة «لا» كبيرة للسكون والسكوت على استمرار الاحتلال.


 الحقيقة أن هذه العمليات ونظراً لعجز الأطراف عن استثمارها وخوف جميع الأطراف الفاعلة من اتساعها إلى حد الإضرار باستقرارهم ومصلحة كل منهم على حدة سيلعب دوراً في تخفيف حدتها، فإسرائيل من ناحيتها أخذت بالرجوع للوراء منذ بداية الأحداث في محاولة لتجنب انفجار أكبر قد يقلب الطاولة على رأسها، والسلطة تريدها شعبية سلمية بلا قتل أو سلاح، أما حركة حماس التي فاجأها اندفاع الشباب نحو الحدود فلا هي راغبة بأن يستمر سقوط الضحايا خوفاً من الاشتعال الذي يمكن أن تستغله فصائل ما لإطلاق صواريخ ولا هي قادرة على منعه كما السابق خوفاً من أن تجد نفسها كما السلطة، فآخر شيء تريده هو أن يتم تشبيهها بالسلطة.
 وهناك خطر حقيقي من هذا الاندفاع غير المنظم وغير المحسوب على حدود غزة فلا يعقل أن يتم في مواجهة ثكنات محصنة جداً ضد النار وحتى الصواريخ والرصاص أن تتم مهاجمتها بالزجاجات الحارقة، إن في ذلك إعطاء مبرر للإسرائيلي بفتح النار لتقتل إسرائيل في ساعتين عدد من قتلتهم في الضفة منذ بداية العمليات .. فعادة ما عودتنا غزة على اندفاعات متهورة يخشى أن تذهب أبعد من ذلك بكثير وخاصة أن إسرائيل تستسهل الاعتداء على غزة.


 يجب ألا تذهب غزة بعيداً في اندفاعها حتى لا تغطي على الأحداث في الضفة والتي هي مركز الصراع، لأن في هذا سيناريو كان قد تحقق العام الماضي بعد حرق الطفل محمد أبو خضير، فقد بدأت القدس بانتفاضتها وهي المدينة المرشحة للاشتباك لأنها خارج الحكم  الفلسطيني لكن غزة حينها دخلت على خط الصراع بالصواريخ فأجهضت انتفاضة القدس. 
يجب ألا يتكرر ذلك، فالصراعات أيضا تحتاج إلى عقل بارد في إدارتها وليس لاندفاعات عاطفية يكون نتيجتها الخسارة ثم هدأت الأوضاع تماماً في كل المناطق بعد عدوان نزل بسقف المطالب إلى حد الإعمار.


 والسؤال هنا كيف يمكن أن تستثمر هذه الأحداث في إطار مشروع التحرر؟
الجواب بالحفاظ على مستوى معين من الاشتباك على عكس ما شهدته الحالة الفلسطينية من حدية قاتلة .. إما التصعيد ببحر من الدم وإما سكون يدخلنا في حالة من العدم، إذن المطلوب استمرار الاشتباك مع إسرائيل بوتيرة معينة تخضع لحسابات السياسة لا أن ترتفع حد الاحتياجات والحروب ولا أن تعود للسكون .. استمرار التعبير عن رفض الاحتلال بحدود معينة لا يستنزف الجسد الفلسطيني، على نمط الانتفاضة الأولى وليس على نمط الانتفاضة الثانية .. فالأولى هي من حشرت إسرائيل في الزاوية جعلتها تبحث عن حل، أما الثانية فقد حشرتنا نحن في الزاوية وها نحن نبحث عن حل فهل نستفيد من تجربتنا أم أن معاركنا هي ردات فعل بلا برنامج وبلا استثمار. 
 إنها معركة جديدة فهل نحسن إدارتها؟ هناك شك في ذلك فمن يتابع كيف تستثمر العمليات للمزاودة والنيل من البعض وتوسيع رفعة الانقسام يدرك مستوى إدارة الانتفاضة ويستطيع التنبؤ بمسارها..!