مقالات عديدة دبجت في الذكرى السنوية الخمسين على رحيل الزعيم العربي الحقيقي جمال عبد الناصر، أشادت به وبشخصه وقيادته ومبادئه ووطنيته وعروبته وأمميته ومشاربه وأهوائه ومصداقيته وتواضعه وانحيازه لطبقة ابيه وامه ، حتى وصلت الامور الى شخصيته وسلوكه اليومي مع عائلته و بيته و طعامه ورصيده في البنك .
سبحان الله ، كيف تم تبديد كل ذلك على الصعيدين الاثنين المصري والعربي على هذا الشاكلة المحزنة ، وكأننا امام أمير بالكاد يفك الخط، او مليك مفدى لا تجد حتى ابنه مستعد ان يفديه ، او زعيم عابر من زعماء هذه الامة رغم تأبده في الحكم من ريعان صباه الى يوم رحيله، او كأننا في هذه الأمة قادرون على "استنساخ" مثيلا له في كل حين او على الاقل حين يجد الجد .
ومع ذلك ، لم تستطع السنوات الخمسون ، ان تغيبه الا بالمعنى الجسدي، وكان سيحدث ذلك لو ظل على قيد الحياة ، حيث سيكون عمره اليوم قد تجاوز المئة سنة بثلاث سنوات . بل لكأن مضي المزيد من السنوات على رحيله انما تستدعي حضوره أكثر فأكثر فتطيل من عمره لدى الاجيال الجديدة ممن لم يعايشوه ، وربما من باب فقر الامة في انجاب زعيم آخر يحاكيه وافتقادها الى من هو قادر على الاخذ بيدها وانتشالها من كهفها الماضوي المعتم الى مرابع شمسها الواعدة .
لم يكن عبد الناصر نبيا معصوما عن الخطأ ، كما كتب قباني "قتلناك يا آخر الانبياء" ، ومن أهم أخطائه التي نسوقها في هذه الذكرى الاستحضارية لقيمة هذه القامة الباسقة ، انه عين شخصا كأنور السادات نائبا له، خطأ من هذا القبيل لا يغتفر، لو كان مفروضا عليه لالتمسنا بعض الغفران، لو كان لفترة قصيرة، لالتمسنا بعض العذر. حتى لمن سيقول انه لم يكن يعرف التبدلات والتغيرات التي يمكن ان تطرأ عليه، فهذا بدوره ينطبق عليه القول الدارج "ان كنت لا تدري فالمصيبة أعظم".
كيف اصبح نائب عبد الناصر مستنقعا لكل موبقات ومخلفات العرب في غمرة بضع سنوات . في عهده اصبحت امريكا 99% من اوراق الحل في يدها، وفي عهده اصبح الصراع مع اسرائيل سايكولوجي، واصبح السادات الرئيس الرئيس المؤمن. اطلق سراح معارضيه من الاخوان والسلفيين وابقى على العلمانيين والناصريين، ليقتتلوا فيما بينهم دون ان ينتصر طرف على الآخر. حتى ان بعض المؤرخين يربطون ظهور الاسلام السياسي في الوطن العربي بظهور هذا الرئيس "المؤمن" .
***
تضيق قبـور الميتيــن بمــن فيهـا .. وفى كل يــوم أنت فــى القبر تكبر / حصانـك فـى سينـاء يلعق دمعَهُ .. ويا لعــذاب الخيــل ، إذ تتـذكـّر / تأخــرت عنا .. فالمسيــح معـذّبٌ .. هناك ، وجــرح المجــدلية أحمر / نساء فلسطيـن تكحّلـن بالأســــى .. وفى بيت لحــمٍ قاصـراتٌ .. وقصّر / وليمونُ يـافـا يـابسٌ فـى حقولــهِ .. وهل شجــرٌ فى قبضـة الظلم يُزهر / هزمنـا ومـا زلنـا شِتـاتَ قبائـلِ .. تعيشُ على الحقــد الدفيــن وتثـأر / يحاصــرنا كالمــوت ألفُ خليفــةً .. ففى الشرق هولاكو .. وفى الغرب قيصر . "نزار قباني" .