من السابق لأوانه تقييم ما يجري في المناطق الفلسطينية المحتلة وخاصة هبة الشبان اليافعين وأخذهم زمام المبادرة بعد أن نظروا لهم باعتبارهم جيلاً لم يخبر المقاومة والانتفاضات، ونحن هنا نتحدث عن الجيل الذي لم يشهد الانتفاضة الثانية أو قسم منه كانوا صغاراً لا يعون الأحداث. ولعل الاستفزازات الإسرائيلية في الحرم القدسي والمسجد الأقصى هي التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لهؤلاء. ولكن من دون شك هناك عوامل أخرى منها حالة الإحباط التي وصل إليها الشعب الفلسطيني في ظل فشل العملية السياسية واستمرار السياسة الاحتلالية الاستيطانية التي تمارسها بصورة مكثفة سلطات الاحتلال، وأيضاً اليأس من حالة الانقسام وتراجع دور الفصائل وصراعها وتنافسها على مكاسب هامشية، وفقدان الثقة في القيادات وقدرتها على معالجة هموم ومشكلات الوطن والمواطن. وقد يكون ما يحصل في العالم العربي مصدر تأثير وإلهام، وفي النهاية نحن أمام حدث نوعي قد يتحول إلى ظاهرة تستحق الدراسة، وما يهمنا هنا محاولة تلمس الطريق في هذه المواجهة الآخذة في الاتساع أو المستمرة بالرغم من الجهود التي تبذل للتهدئة.
يجب الإشارة بدءاً إلى رد الفعل الإسرائيلي على الأحداث الصادمة للمجتمع والمؤسسة الحاكمة على السواء، فمنذ عملية الطعن الأولى اتخذت الحكومة الإسرائيلية سلسلة قرارات في جوهرها عدم الرد بعقوبات جماعية من قبيل الإغلاق الشامل ومنع العمال من العمل في إسرائيل، ولكنها في المقابل تركز على المعاقبة الفردية التي سرعان ما تتحول إلى جماعية تطال عائلات منفذي العمليات، وأكثر القرارات تطرفاً هي إعدام كل من يطعن أو يحاول فعل ذلك بل ومن يشتبه به بأنه سيفعل شيئاً من نوع هذا النشاط الكفاحي. وفي إطار ذلك دُعي المواطنون الإسرائيليون لحمل السلاح والمشاركة في ما سمي عمليات" الإحباط"، وعُدلت أوامر إطلاق النار للشرطة وقوات الجيش والأمن الأخرى بحيث أصبح قتل الفلسطيني يتم على أهون الأسباب وتكفي الشبهة لكي تجري تصفية أي شخص حتى لو كان طفلاً لا يشكل خطراً على أحد.
تشديد إجراءات الرد واليد الخفيفة على الزناد كان يُراد منها ردع الفلسطينيين، وقد تشدق بذلك قادة إسرائيليون قالوا إن القتل يهدف للردع، وفي هذه الدائرة ارتكب الإسرائيليون جرائم يندى لها جبين البشرية وتستحق بل يجب أن تكون مدعاة لمحاكمة مرتكبيها وبالذات قتل المدنيين والأطفال بدم بارد بعد التأكد من عدم وجود أي تهديد منهم كما حصل مع العديد من الحالات الموثقة بالصوت والصورة. ولكن هذا لم ينفع إسرائيل بل أدى إلى نتائج عكسية تماماً من تلك التي تتوقعها حكومة بنيامين نتنياهو، وأخذت الأمور في التصاعد وازدادت عمليات الطعن والمواجهات، وانتقلت إلى الداخل، وخلقت حالة من الهلع والرعب جعلت مقاسم التليفون في مراكز الشرطة تستقبل مكالمات في مدار الساعة، مئات الآلاف منها خلال ساعات وأيام قليلة للتبليغ عن عمليات فلسطينية وغالبيتها الساحقة كانت زائفة وغير حقيقية، وهي تعبر عن هذه الحالة من الخوف الشديد التي ألمت بالجمهور الإسرائيلي والتي زرعها التحريض السياسي والإعلامي. وتعترف الحكومة بأنه لا يوجد لديها حل سحري لما يجري، وهي تعيش حالة من التخبط في ظل الاتصالات والدعوات الدولية للتهدئة، وفي ظل تراجع شعبية نتنياهو بصورة كبيرة باعتباره سيد الأمن، وقد أظهر استطلاع للرأي أن 73% من الإسرائيليين يعتبرونه فاشلاً وغير قادر على معالجة مسألة الأمن.
وبالرغم من الحالة المزرية التي تعيشها إسرائيل إلا أن النقاش هناك يجري حول القضاء على المقاومة أو ما يسمونه "موجهة الإرهاب الفلسطيني" وكأن الوصول إلى هدوء سيحل المشكلة. وللأسف لا يوجد حتى مجرد نقاش حول معالجة الصراع من جذوره والتوصل إلى تسوية على أساس إقامة دولة فلسطينية في حدود العام 1967. ويجري التركيز على الخطوات التي من شأنها وقف المواجهات. حتى الكتلة المعارضة الرئيسية تطرح خطوات قمعية لمعالجة هبة الشباب.
تطورات الأحداث حتى اللحظة تخدم القضية الفلسطينية من جانبين: الأول هي وضعت حداً لسياسة تغيير الأمر الواقع في الحرم القدسي وما يمكن أن تكون نوايا لتقسيمه زمانياً ومكانياً، والثاني أعادت الاعتبار لمسألة الصراع وذكّرت العالم بوجود شعب تحت الاحتلال وقد كان نسينا في غمرة الصراعات والأزمات التي تشهدها المنطقة، وأحيا التفكير بضرورة وضع حد لهذا الصراع الذي يمكن أن يفجر حرباً واسعة النطاق، حيث يمكن لموضوع الانتهاكات الإسرائيلية في القدس أن تشعل فتيل حرب دينية. ويمكن تحقيق نتائج إيجابية لهذا الكفاح إذا ما ترافق مع حملة سياسية و دبلوماسية مكثفة تركز على سياسة الاحتلال الاستيطانية وقمعه للشعب الفلسطيني، وسعي أكيد لاستغلال المنابر القانونية لمحاكمة جرائم الاحتلال.
ولكن هناك مسألة غاية في الأهمية ينبغي ألا تغيب عن بال أحد وهي ضرورة بقاء مواجهة الاحتلال شعبية وسلمية ومقتصرة على المناطق المحتلة في الضفة الغربية وفي القدس. حتى أن مساندة شعبنا في إسرائيل يجب أن تكون في إطار التحركات الشعبية السلمية المؤازرة. وهذا يؤذي إسرائيل أكثر بما لا يقاس من عمل مسلح ضد المدنيين في إسرائيل. ولنشاهد جميعاً كيف تشعر إسرائيل بالأزمة. ويجب ألا نساعدها على التحرر منها بحرف بوصلة الكفاح ومساعدة إسرائيل دولياً وتوفير مبررات لقمعها لشعبنا.