جرح غزة في كفها

رجب أبو سرية.jpg
حجم الخط

بقلم: رجب أبو سرية

ما كاد قطاع غزة يتنفس الصعداء، بوصول قوات السلطة الوطنية الفلسطينية إليه، بعد أن كان قد انتفض مع أشقائه في القدس والضفة الغربية منذ عام 87 حتى عام 94، حتى كان يجد نفسه في مواجهة طاحنة مع العدو الإسرائيلي عام 2000، ثم ساقت مجريات الأحداث الأمور الى فرض الانسحاب أحادي الجانب على إسرائيل من أرض القطاع، ولم يكن أحد يعلم بأن ذلك الانسحاب كان مخططاً إسرائيلياً لزرع بذور الانفصال بين جناحَي الوطن، ورغم ان الكل الفلسطيني قد نظر للعرس الانتخابي عام 2006 بعين الرضا، كونه يزج بكل القوى في اطار واحد موحد، تجلت عظمة الممارسة الديمقراطية فيه، حين تم تداول الحكومة من "فتح" إلى "حماس"، إلا أن النتيجة الانتخابية أغرت "حماس" بان تناطح "فتح" رأساً برأس.
وغزة التي كانت لتوها تحتفي بكنس الاحتلال ما كانت تدري بأن فرحتها لن تدوم طويلاً، فما كاد يمر سوى عام واحد ونصف عام فقط، حتى كانت حرب الأخوة الأشقاء تندلع على السلطة والحكم، لتغطس غزة في وحل العزلة والحصار والحروب الإسرائيلية الثلاث الطاحنة المتوالية، وأي جردة حساب لثلاثة عشر عاما مضت، تظهر الى مدى عانى سكان القطاع من بلاء مزدوج، فمن جهة العدو شاحذ سلاح القتل على الحدود، ومن جهة ثانية، الشد والرخي بين طرفي السلطة الداخلية، ليكون الضحية دائما هو المواطن الذي لم يكن مسموحا له ان يواصل خياره بالانتماء خاصة للشرعية في مواجهة سلطة امر واقع عسكرية الطابع والجوهر، وهكذا عانى الكل الشعبي، من عدم القدرة على التدخل بوضع حد للانقسام، بعد ان توقف العمل بالمؤسسات المنتخبة او عبر نظام الفصل بين السلطات، حيث ان الكل الشعبي افتقد لسلطة الرقابة فضلا عن سلطة القرار على السلطتين التنفيذيتين.
في غزة تكرست سلطة القوة العسكرية المفروضة من قبل حركة حماس، فيما كانت السلطة الشرعية مقتصرة على سلطة تنفيذية فقط، دون وجود سلطة تشريعية تراقب أداءها، وكان سكان قطاع غزة بالذات الأكثر تعرضا لنتائج هذا الواقع المرير، من حيث أن السلطة الشرعية غير قادرة على ممارسة سلطتها عليه، وتدير شأنه عن بعد، بل وخلال فترات الشد والجذب، كان هنالك من يعتقد بأن "الضغط" من خلال التحكم بالرواتب واموال الخدمات، يمكن ان يدفع "حماس" للقبول بإنهاء الانقسام وتمكين السلطة من غزة.
وانقسم سكان غزة في ظل عدم القدرة على توفير سبل العيش من خلال الاقتصاد الحر، بين موظفين يتلقون رواتبهم من السلطة الشرعية المقيمة في رام الله، وبين موظفي "حماس" الذين يجدون انفسهم مضطرين لتقاسم اولئك الموظفين رواتبهم، وهنا يمكن سر الكثير من الوقائع المؤسفة، من مثل تفشي البطالة خاصة بين الخريجين، والإغلاق، وانهيار الاقتصاد المحلي، بل وعدم اعادة ترميم ما دمرته الحروب الإسرائيلية المتتابعة، باختصار معاناة متعددة الأشكال والمستويات، ورغم ذلك كانت غزة تبدي كل الوقت توقها للكفاح ضد العدو، حيث تصدت لكل تلك الحروب بشكل جماعي، وانخرطت كل القوى في مسيرات العودة، ودللت غزة على طبيعتها في إبداء الاستعداد العالي للكفاح ضد العدو، لكن فيما يخص الشقاق الداخلي، كان جرحها في كفها، فعجزت عن معالجته وهي التي اجترحت المعجزات حين كان الأمر يتعلق بمقارعة العدو الإسرائيلي.
بالنظر الى عزلة غزة المتواصلة منذ ثلاثة عشر عاما، فإنه يمكن القول بأن سبيل حياة الناس مرتبط بخطين: الأول هو رواتب موظفي السلطة الشرعية، والذين تناقص عددهم على مر السنين بسبب التقاعد الطبيعي بوصول الكثير منهم لسن التقاعد، او لعدم فتح باب التشغيل أو إحلال موظفين جدد بدلاً من المتقاعدين، وهناك تفاصيل لها علاقة بالعلاوات والترقيات، ومتفرغي 2005، وما إلى ذلك. والثاني موظفو "حماس" الذين وجدوا في اقتصاد الأنفاق أولاً ما يسد رمقهم، وان كانوا ينتظرون عدة اشهر لتلقي جزء من الراتب، ثم في المنحة القطرية، بما يعني بأن ما يدخل غزة ما هو إلا محلول طبي، يحفظ حياة الناس بالحد الأدنى.
في حقيقة الأمر ان الكل الشعبي، إن كان في غزة او الضفة، يعاني حالياً من شظف العيش ومرارة الحياة، نظرا لمعركة كسر العظم مع الاحتلال، ونظراً لأن الرأس القيادي يعاني من صداع مركب، فهو من جهة منقسم على ذاته بين اكبر حركتين، فحركة حماس في غزة تحكمها بأقل من نصف المركب السياسي الذي يمثل الكل الوطني، وفتح تدير السلطة في الضفة بما هو قريب من ذلك، لذا فان مواجهة الاحتلال على جبهتي غزة ضد الحصار وجبهة الضفة ضد الاحتلال كانت ضعيفة. ومما زاد الطين بلة، هو مرور كل هذا الوقت على قيادة تبقرطت، فلم يعد هناك قائد لفصيل بما في ذلك "فتح" و"حماس" لا يتولى منصباً وزارياً او حكومياً مرموقاً، وهذا سبب كاف، لعدم ظهور استعداد كل القيادات على قيادة الكفاح الوطني من الميدان، وكما يجب ضد الاحتلال والعدو الإسرائيلي.
هل يمكن لأحد ان يثق كل هذا الوقت بسلطة تنفيذية لا تخضع للرقابة التشريعية، أولا ثم للرقابة الشعبية ثانيا؟ وهل يمكن لأحد ان يثق بقيادات حزبية تفرق بين فلسطيني وآخر، على أساس الانتماء الحزبي او على خلفية مكان الإقامة الجغرافي، وهنا لابد من القول بأن ملفات غزة العديدة ومنها ملف موظفي الشرعية بكل تفاصيله، تم ترحيله من حكومة لأخرى، وعلى الطريق امتدت سلسلة الوعود دون تنفيذ، الى ما شاء الله، ولعل فيما حدث في دول الجوار من سقوط مروع لحكام وأنظمة العراق وليبيا، اليمن وحتى سورية، دليل على ان الشعب يقاتل من أجل الوطن، لكنه لا يدافع عن حكام او سلطات تعيش في البرج العاجي او الوثير المخملي، وغزة التي كانت دائماً كنز الكفاح الوطني، والتي ما زالت تتردد وتتريث في مواجهة الجرح الذي في الكف، بالكيّ، تُظهر صبر الجمال، لكنها في نهاية المطاف، ستجد نفسها مضطرة لكنس القمامة من داخل البيت، وغني عن التذكير بأن شعباً جائعاً، لا يمكنه ان يصمد او أن ينتظر طويلاً نهاية عض الأصابع، إن كان بين الأخوة الأعداء أو بين الأخوة والأعداء.
ملخص القول، هو ان خطوة عملية باتت ضرورية، ولا تنتظر ترتيباً نهائياً للبيت، وتتمثل في انتقال، بل وإقامة نصف الحكومة في غزة، وعقد مؤتمر شعبي، يضع حداً نهائياً وتاماً لكل مظاهر التمييز بين الموظفين هنا وهناك، وبين من هم هنا وهنا، بما في ذلك التقاعد من وراء ظهر قانون الخدمة المدنية، وحيث ليس هناك من رقابة تشريعية، فلا بد من ان تحل النقابات بديلاً لمراقبة أداء السلطة التنفيذية، والتدخل حتى في القرارات السياسية التي فيها وجهة نظر، من مثل ذلك الخاص برفض تحويل أموال المقاصة إلى الخزينة الوطنية ولو عبر طرف ثالث.