حول مسار التطبيع، ولكن بصراحة

عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد المجيد سويلم

علينا أن نعترف بأن «العالم» لا ينظر لمسار التطبيع من نفس منظارنا، ولا يراه كما نراه، وليس لدى هذا العالم نفس الموقف الذي نقفه.
الاعتراف هنا ليس من باب التكفير عن ذنب اقترفناه، أو من باب الشعور بالألم، أو الإحساس بالظلم أو الضغينة، وإنما ـ أو هكذا أفترض ـ من باب استشعار المسؤولية، ومن باب معرفة الواقع، ومن باب ـ وهذا هو الأهمّ ـ معرفتنا بالوسائل والأساليب المناسبة والناجعة في التصدي لهذا المسار.
في لحظات معينة بدت الأمور وكأنّ كل من يؤيّد مسار التطبيع يقف بالضرورة ضد مصالحنا الوطنية، وبدت الأمور وكأنّ استمرار مسار التطبيع سيؤدي إلى تهشيم حقوقنا، وتبديد مشروعنا الوطني برمّته وكلياً.
إذا وقعنا في هذا «الفخّ» فسنجد أنفسنا لا محالة في حالة من العزلة السياسية، لأن تأييد مسار التطبيع عند دول مهمة ومؤثّرة في هذا العالم لا يرتبط في أغلب الظنّ، وفي الغالبية الساحقة من الحالات بالتراجع عن دعم حقوقنا الوطنية، أو الارتداد إلى مواقف جديدة، تنتقص من هذه الحقوق، أو تعطّل من مقدار الدعم والإسناد الذي يتلقاه الشعب الفلسطيني من هذه الدول.
الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض المهرولين المتحمّسين والمندلقين، بخفّة وسذاجة يريدون لنا أن نقع في شرنقة هذا النمط من التصور أو التفكير، ويريدون لنا ـ في زحمة الانفعال ـ أن نتطيّر في ردود الأفعال، ويتمنون لنا الوقوع في هذا المطبّ الخطير، وفي هذا الوقت بالذات.
لاحظوا أن المطبّعين الجدد، وحتى عتاة المتحمّسين منهم، ما انفكوا «يؤكّدون» استمرار دعمهم للحقوق الوطنية الفلسطينية، و»سعيهم» لأن يكون مسار التطبيع عاملاً مساعداً من عوامل المساهمة في إحقاق هذه الحقوق، وفي المضيّ قدماً في مسار حل سياسي، يفضي إلى تجسيدها، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وعلى حدود الرابع من حزيران، بل حتى «التأكيد» على «التزامهم» بمبادرة السلام العربية وقرارات الإجماع العربي.
نعرف جيداً أن التطبيع قد أدى موضوعياً إلى قلب المسألة رأساً على عقب، وأن البدء بالتطبيع سيكرس الهيمنة الإسرائيلية، وأن الإدارة الأميركية قد تفاهمت مع إسرائيل من جهة، ومع المطبّعين المتحمّسين من جهة أخرى على «تقليص» سقف التوقعات الفلسطينية من الحلول المقترحة والمنتظرة، وأن الدعم الذي يتحدثون عنه سيتحول مع تعزيز مسار التطبيع إلى ضغوط من كل نوع وصنف وشكل.
كل هذا نعرفه جيداً ولكن «العالم» وأخص بالذكر الدول الكبيرة بما فيها الأوروبية، ودولاً كروسيا الاتحادية والصين واليابان، وأخرى على درجة عالية من التأثير في المعادلة الدولية ليسوا من المتواطئين ضدنا، بالرغم من تأييدهم لمسار التطبيع، وبالرغم من معرفتهم ببعض مخاطر هذا المسار على الوصول إلى حل سياسي متوازن في كامل الإقليم.
في مواجهة هذه الإشكالية يمكن لنا أن نتحلى بالحكمة، وأن نبتعد عن التطيّر والانفعال، وأن ندرك أننا أمام اتجاه وليس حالة.  
لا طائل من ردود الأفعال غير المتزنة، أو من اعتبار كل ما يصدر عن المستويات الرسمية هنا أو هناك، وكأن العالم قد انهار من حولنا، أو كأن هذه المواقف ذات الطابع (الروتيني) قد حسمت الشك باليقين!، أو أن موقف اليوم يظلّ نسخة طبق الأصل عن مواقف الأمس، أو أن الموقف غداً سيظل على حاله وينتهي ليتحول إلى موقف ثابت لا يتغير.
على سبيل المثال، والحصر، أيضاً، بات بحكم المؤكّد أن سقوط ترامب في الولايات المتحدة إن لم يكن له من تأثير مباشر على قوة الدفع بهذا الاتجاه فإنه سيؤدي حتماً إلى تعديل المسار، نحو إعادة ربط مسار التطبيع بالتصور الأميركي «الجديد» لحل الصراع، وفق رؤية الدولتين، وهو أمرٌ سيفضي موضوعياً إلى التقليل من مخاطر مسار التطبيع، وإلى التخفيف من وطأته على الحالة الوطنية.
كما أن النظرة الواقعية للأمور من شأنها أن تساعدنا على قراءة فاحصة وذكية للمشهد التطبيعي كما عكسته، وما زالت تعكسه استطلاعات للرأي في العالم العربي، وما أكّدته، وما زالت تؤكّده من أن الغالبية الساحقة من مواقف شعوب أمتنا العربية تقف ضد التطبيع، حتى وإن كانت حتى الآن لا تقوم بمناهضته بما يكفي من المظاهر والأشكال، أو أنها ما زالت دون مستوى تنظيم احتجاجات كبيرة، لتحويله إلى عبء سياسي على المطبّعين، بدلاً من تحويله إلى «ملاذ» سياسي للمطبّعين وأهدافهم.
المهووسون بالتطبيع والمتهوسون له، والصاغرون على الإقدام عليه، والطامعون «بإحدى الحسنيين»، والمتلعثمون في دعمه وتأييده على مضض، وعلى غير رغبتهم، ليسوا في سلة واحدة، ولا يجوز لنا مطلقاً أن نضعهم فيها.
تعالوا نأخذ مثالاً آخر.
أقرب العرب إلينا هي الأردن، وأهمّ دولة لا نجد مطلقاً أي مناصٍ من إقامة أعلى أشكال العلاقات معها هي مصر والشقيقتان الكبرى والصغرى لهما علاقات «طبيعية» مع إسرائيل، وهي علاقات إما مجمّدة كما هو الحال الأردني في التطبيع مع إسرائيل ومنذ سنوات، وإما تطبيع «بارد» كما هو الحال مع مصر ومنذ عقود.
علينا أن نعطي للشعوب العربية فرصتها لتحديد «ماهية» التطبيع الذي سيتكرس في الواقع، ولتشكيل وبناء الأدوات الخاصة بها لمناهضة هذا التطبيع.
ليس المطلوب أبداً أن نجلس جانباً بانتظار ما سيحدث، وبانتظار ما يمكن أن يتطور في مجمل الواقع المحيط.
المطلوب ـ كما أرى ـ أن نردّ على هذا الاتجاه الذي يبدو أنه مدفوع بقوة من ذوي مصالح انتخابية وسياسية مباشرة في الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن منظومات للحكم ربطت مصيرها ومستقبلها بتلك المصالح، ورهنت بلادها وثرواتها وخيرات شعوبها بهذا المصير بعد أن انقلبت على مصالح تلك الشعوب.
والمطلوب أن يكون ردنا في الميدان، وليس على وسائل التواصل الاجتماعي، وأن يكون ردنا بمستوى الخطر والتحدي، وذلك بوحدة الموقف الفلسطيني وإنهاء الانقسام، وإعادة بناء النظام السياسي، ووحدة المؤسسات السياسية التمثيلية لشعبنا، وتجديد المقاومة الشعبية العارمة، وإعادة الالتحام بشعوب الأمة ومنظماتها وأحزابها وقواها من دون استثناء.
حينها، وحينها فقط نكون قد حولنا، ومعنا شعوب الأمة كلها الاتجاه «الجارف» للتطبيع إلى مأزق كبير للمطبّعين، ونكون قد حولنا هذا الاتجاه كله إلى إشكالية سياسية واجتماعية لهم وليس لنا، ونكون قد أقنعنا العالم بأحقية مناهضتنا لهذا التطبيع، باعتباره محاولة يائسة، أميركية وإسرائيلية وأعرابية عاجزة، ونكون قد فرضنا على العالم أولوية حقوقنا وأهدافنا على أي حقوق أو أهداف أخرى.
لا طريق سوى هذا الطريق، أما شحنات التفريغ العاطفية، فمهما كانت مفهومة ومتفهّمة في لحظة انفعال سياسي، فهي لا تقدم ولا تؤخّر، ولا تحدث فرقاً حقيقياً في معادلة السياسة الفعلية.