ما زالوا أسياد الشارع وصانعي الحدث

Sadeq-Alshafy
حجم الخط

سنستعمل من بين أسماء وتعبيرات صحيحة أُخرى تعبير "الهبة الجماهيرية" لما يجري في ارض فلسطين. 
لقد بلغت هذه الهبة من العمر وقوة الفعل والتأثير ما يسمح بتسليط الضوء على عدد من  الخصائص والمزايا والآراء.
أولاً، انها بعد ان بدأت بالقدس وبالدفاع عن الاعتداءات على المسجد الأقصى، انتشرت بسرعة وفاعلية في عموم جغرافيا الوطن من الضفة الى غزة، الى  كل أراضي 1948.
لم تقتصر في أراضي 1948 على الحركة الإسلامية كما تحاول أجهزة الاحتلال الإيحاء بنية تركيز وتحديد اتجاه ضربتها وملاحقتها، بل شملت الكل بلا استثناء.
هذه الميزة أعادت التأكيد بما لا يدع مجالا للشك على وحدة الأرض والشعب والقضية الفلسطينية وأكدت سقوط كل سياسات ومراهنات دولة الاحتلال لعزل الأهل في مناطق 1948  وقواهم السياسية والمجتمعية عن بقية الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية والنضالية الواحدة. فقد هبّوا كما أهل القدس والضفة وغزة. 
ثانيا، ان الهبة الجماهيرية الفلسطينية ما زالت تحتفظ بطابعها الشعبي والسلمي بشكل رئيسي ولا تزال أسلحة الفلسطيني بشكل عام تقتصر على السكين والحجر، سواء رمته اليد العفية مباشرة او بواسطة النقيفة او المقلاع. اما على جانب العدو فان مواجهته لتحركات وفاعليات الهبة الجماهيرية تتسم بدرجة عالية من الدموية وتقصد القتل العمد بلا تردد او تدقيق او محاولة السيطرة، وبلا داع او مبرر، بما يشكل خروجاً واعتداءً على كل القوانين الدولية والإنسانية يصل الى درجة جرائم ضد الإنسانية. القصص والتقارير المصورة الكثيرة تفضح هذه الحقيقة.
  ان هذه الطريقة بالمواجهة تعكس في جانب رئيسي منها إضافة الى تأصل العنصرية والفاشية وجوانب عدوانية أخرى، تعكس حالة من الخوف تصل حد الذعر يعيشها المحتل أول الخائفون هي حكومة الكيان وأجهزتها، ثم الغالبية الساحقة من مجتمعه وأحزابه وقواه. حالة الخوف هذه لها اكثر من عنوان:         
- الخوف على ديمومة واستمرار احتلالهم التوسعي الاستيطاني نفسه وعدم الشعور المجتمعي بالأمن والاستقرار، رغم كل التبجح بالقوة والمنعة والتماسك.
 - الخوف من العزلة الدولية بفعل تنامي حركتي التضامن والمقاطعة العالميتين مترافقتين مع الفعل السياسي.
- الخوف من الآخر الفلسطيني، نقيضهم، الذي فشلوا في تدجينه وفي فرض قبولهم عليه.
ولا تنتهي بالخوف على الذات وهو يصل حد الرعب الذي يشل العقل ويعمي البصيرة.
 وتجد هذه الطريقة الدموية الفاشية بالمواجهة تغطيتها القانونية وتشجيعها في مجموع القرارات والقوانين المتتالية التي تسنها حكومة الاحتلال للتشجيع على القتل والاعتداءات بكافة أشكالها. كما تجد تغطيتها في تسابق وتباري القوى السياسية والمجتمعية، لا فرق بين يمين ويسار رسمي او وسط، على تأييد القتل وكل أشكال العنف، بل والدعوة الى تصعيد المواجهة العدوانية الى أقصى مدياتها.  
ثالثا، ان المبادرة لا تزال بيد الشباب وان لا سلطة ولا سيطرة لاحد غيرهم على مسار الأحداث والمواجهات ومجرياتها، ولا قدرة لنتنياهو وأجهزته على وقفها.
ما زال الشباب هم أسياد الشارع وصانعي الحدث. وما زال الشباب كذلك، حتى في العلاقة مع التنظيمات الفلسطينية. صحيح تماما ان أعضاء التنظيمات وشبابها هم جزء أساسي وفاعل من هبة الشباب ومواجهاته، لكن الصحيح ايضا ان التنظيمات لم تنجح حتى الآن في تشكيل إطار موحد، بتصور وأهداف موحدة، للتعامل مع الهبة الجماهيرية سعيا الى قيادتها وتوجيهها وصوغ برنامجها، على رغم الكثير من الدعوات التي صدرت عن اكثر من تنظيم لتشكيل هذا الإطار. ولا تفسير لعدم نجاح اي من تلك الدعوات.
ربما تكون هذه أول مرة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني المعاصر تقوم هبة جماهيرية بهذه الأهمية وهذا الاتساع ولا توجد لها قيادة وطنية موحدة.
لقد اصبح تشكيل قيادة وطنية موحدة امرا في منتهى الأهمية والضرورة لضمان استمرارية الهبة الجماهيرية، وربما تطورها الى انتفاضة، ولضمان استمرار طابعها كمقاومة شعبية، ولتأمين مستلزمات وضرورات ديمومتها وتطورها واحتياجاتها اللوجستية والمادية. وايضا، لبلورة وإعلان اهدافها النضالية العامة في سياق النضال الوطني العام بأشكاله المتعددة، وهذه المهمة أصبحت على درجة عالية من الأهمية والضرورة والإلحاح، ولم يعد مفهوما عدم القيام بها.
رابعا، ان الهبة الجماهيرية على شمولها وعمقها وتواصلها ودم شبابها المسفوك، لم تفرض حتى الآن، نفسها على الواقع العربي الرسمي والشعبي، وعلى الواقع الإسلامي، ولا على المستوى الدولي ايضا. فلم يتم حتى الآن انعقاد اي اجتماع رسمي عربي او إسلامي على مستوى عال لدعم الهبة الجماهيرية (اعلن الأمين العام للجامعة العربية قبل يومين الدعوة الى اجتماع عربي على مستوى وزراء الخارجية). ولم نسمع ايضا عن مظاهرة بمستوى الهبة وأهميتها تملأ شوارع العواصم العربية والإسلامية. ولا تقع المسؤولية في ذلك، على قصور في الهبة ودرجة انتشارها وتواصلها وبطولات تصدي  شبابها وتضحياتهم، بل تعود الى كون الكل مشغولا بمشاكله وأولوياته.  
الحال هو نفسه على المستوى الدولي. التحرك الذي أعلنت موغيريني ان اللجنة الرباعية قررت البدء به بعد اجتماعها في الأمم المتحدة بداية الشهر الحالي لم تظهر له اي تباشير. حتى وفد اللجنة الرباعية الذي اعلن عن زيارته في أواخر الأسبوع الماضي لكل من دولة فلسطين ودولة الاحتلال ألغى الزيارة بسهولة نزولا عند رفض نتنياهو لها.
ويبقى في الأصل والأساس ان الهبة الجماهيرية المجيدة لا تزال تزدهر ويتسع انتشارها ويتصلب عودها ويرتفع مستوى فعلها ويزيد شهداؤها وتتعاظم مفاعيلها على كل المستويات. ويبقى الاحتلال بكل جبروته عاجزاً عن القضاء عليها، ولا حتى محاصرتها.