المرافعة الشهابية..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

بعد وقفة مؤقتة، مع «الحدث السوداني» يوم الثلاثاء الماضي، نعود اليوم إلى «الاستثناء السعودي»، الذي تسعى مرافعة الشهابي لتكريسه، وتبرير أولويته وتفوّقه على جمهوريات الراديكاليين العرب، التي قوّضتها الدكتاتورية، والحروب الأهلية، والمغامرات الخاسرة.
ومصدر أولوية الاستثناء، في ما أفصحت، أو سكتت، عنه المرافعة الشهابية: أصالته، فهو عضوي، ينتمي إلى، وينبثق، ويُعبّر عن، خصوصيات اجتماعية وسياسية محلية، عربية وإسلامية، عميقة، وراسخة الجذور في الزمان والمكان. يعني تطوّر بصورة «طبيعية»، خلافاً لجمهوريات الراديكاليين العرب الهجينة و»المستوردة».
وكنّا قد أشرنا في معالجات سبقت إلى حقيقة أن مرافعة كهذه لا تستقيم دون ممارسة المحو، أي محو الذاكرة والتاريخ في آن.
ومن حسن الحظ أن مرافعة مضادة لوهم الأصلية والأصالة كانت موضوع كتاب، نُشر بالإنكليزية، في آب من هذا العام بعنوان «ما بعد الاستثناء: تفسيرات جديدة لشبه الجزيرة العربية»، لثلاثة باحثين قاموا بدراسات ميدانية في السعودية، هم: أحمد كنّا، وإيملي لورينار، ونيها فورا.
وبقدر ما يعنينا الأمر، خلاصة التفسيرات الجديدة، الباحثة ضمن أمور أخرى عن نموذج تفسيري جديد كبديل لنموذج الدولة الريعية، أن الاستثناء السعودي نجم عن سبق إصرار وتصميم لا عن الأصلية والأصالة، وأن تلك البلاد عرفت على مدار عقود طويلة محاولات إصلاحية، ونشاطات نقابية، واحتجاجات سياسية، ولكنها هُمّشت وقُضي عليها على يد النظام، الذي كان بدوره جزءاً من مشروع سياسي لمصالح إمبريالية عالمية، وعائلية محلية.
يعني ديمومة الخصوصيات لم تنجم عن جوهرانية متعالية، بل نجمت عن سياسات حمائية داخلية وخارجية في آن.
وهذا مهم، في الواقع بقدر ما يُسهم في تجليس فرضيات مقلوبة على قدميها، ويعزز الميل إلى نفي الخصوصيات الدينية والاجتماعية والسياسية كمعطى سابق، ويُسهم في تجليس التاريخ المحلي، والخصوصيات نفسها، في تاريخ نشوء الدول في الأزمنة الحديثة، وفي التاريخ الأشمل للإمبريالية الغربية، التي وحدّت العالم والتواريخ (بلغة إدوارد سعيد في «الثقافة والإمبريالية»).
على أي حال، لا أعتقد أن أحداً، من الباحثين في علوم السياسة والتاريخ والاجتماع، سيتمكن من تجاهل قرائن لا تشكو ندرة الفصاحة والصراحة في كلام الرئيس الأميركي، ترامب، عن «حلفائه» السعوديين والخليجيين الذين لا يستطيعون البقاء «أسبوعين» دون حماية أميركية، أولئك الذين لا يملكون شيئاً غير المال، «الكثير من المال»، والذين حان الوقت، أيضاً، ليدفعوا أكثر، وليأخذوا دوراً أكثر فعالية في حماية أنفسهم، وفي سياسة الإقليم.
إذاً، وخلافاً للمرافعة الشهابية، لا علاقة لـ»الاستثناء» بالخصوصيات الاجتماعية، والسياسية المحلية، إلا بقدر ما يتجلى، بكل ما فيه، ويدعي لنفسه من خصوصيات، كمركّبات في نظام أكبر وأشمل للرأسمالية العالمية، منذ اكتشاف النفط في ذلك الجزء من العالم.
فبقاء الخصوصيات، كما القضاء عليها، يخضع لديناميات أكثر تعقيداً، وأقل عفوية، من أوهام واستيهامات الأصل والأصالة.
بيد أن عملية الإطاحة بالمرافعة الشهابية لن تكون كافية، أو مُجدية، دون وضعها في زمان ومكان محددين، والتفكير في أمور من نوع: الربيع العربي، والثورة المضادة، والردة اليمينية في عالم العرب، والعالم، وفراغ القوّة في الشرق الأوسط، وانهيار الجمهوريات الراديكالية، والمراكز الحضرية التقليدية للريادة والقيادة الثقافية والسياسية للعالم العربي. فمن المستحيل فهم فحوى وتوقيت المرافعة دون محددات كهذه.
وبما أن الأيديولوجيا تمشي في ركاب الإمبراطورية، لا العكس، فمن المنطقي، والصحيح، التفكير في حقيقة أن المرافعة الشهابية هي الخطاب الأيديولوجي الجديد للقوّة السعودية (بعدما أصبح خطابها الوهابي التقليدي مصدر إحراج، خاصة لدى الحلفاء الأميركيين والغربيين عموماً، وبعدما فرض عليها فراغ القوّة، وانهيار الحواضر التقليدية، وضغط الحليف الأميركي، ممارسة دور أكثر علانية وفعالية في العالم العربي).
وهي تفعل هذا الآن فوق الطاولة، لا تحتها، وفي نشرات الأخبار يدور الكلام عن «التحالف العربي»، في الحرب على الحوثيين في اليمن، مثلاً، «بقيادة السعودية».
والمُراد من أيديولوجيا تمشي في ركاب القوّة، تسويغ مشروع التحديث الداخلي في تلك البلاد (الذي تم بضغط أميركي، أيضاً) من ناحية، ومن ناحية ثانية، تسديد ضربة أيديولوجية «قاضية» لنموذج العقد الاجتماعي، الذي طلبته موجة الربيع العربي الأولى، بطرح نموذج بديل خلاصته:
دعوا السياسة جانباً، ألا تريدون الخبز والترفيه، سنوفّر لكم الخبز والترفيه، ولكن ضعوا مسألة «الحرية» جانباً، فالنسق العربي ـ الإسلامي يقدّم تأويلات وضوابط للحرية، والمواطنة، والمساواة، أفضل بكثير من نموذج الدولة القومية، ونظامها الديمقراطي «المستورد»، علاوة على أن الغرب نفسه «تعب» من الديمقراطية، كما يتجلى في مأزق الديمقراطيات الليبرالية الغربية، وجاذبية الشعبوية، وحركات اليمين القومي والديني.
والمفارقة، في هذا الشأن، أن لا إمكانية لاستبعاد السياسة، أو الحرية، والاكتفاء بالخبز دون الحرية، في كل مشروع مُحتمل للتحديث الاجتماعي في هذا الجزء من العالم، كما في كل مكان آخر.
ليس لأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، كما جاء على لسان يسوع، ولكن لأن استبعاد السياسة ينفي احتمال الحصول على الخبز، أيضاً، واستبعاد فكرة، أو ضرورة الحرية، يعني أن الشكوى من عدم توفّر الخبز نفسه لن تكون مشروعة أو مُتاحة.
تكلّمتُ في معالجة سبقت عن نخبة كوزموبوليتانية من أبناء بيروقراطية الدولة السعودية، وطبقة التجّار: واهية الجذور، بلا مركز للقوّة بالمعنى الاجتماعي، تعلّمت في مدارس أجنبية، وتشتغل في المصارف، وشبكات الإعلام والمال والأعمال، في زمن العولمة.
وهذه، كما يبدو في المرافعة الشهابية لا تفكّر في العلاقة بين الخبز والحرية، بل تعتقد أن أحدهما قد يشكل خطراً على الآخر. فاصل ونواصل.